لماذا أنا نسوية؟

ابتهال محمود – دعني أقطع عليك الطريق من بدايتها، عزيزي القارئ، بأن أطلعك على أمر يحزّ في نفسي كثيراً، وهو أنني لم أتعرف إلى كتابات الدكتورة المصرية نوال السعداوي، أو الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار، وهما من أعلام الفكر النسوي، إلا بعدما بلغتُ نهاية العقد الثاني من العمر. لقد خمّنت بأن هذه معلومة قد تهم البعض ممن ابتلوا بداء إطلاق الأحكام المسبقة، فأوضح لهم أنني لم أتعرض إلى “غسيل دماغ” أدى إلى إصابتي بهذه البلوى! فعندما حصلتُ على أعمال هاتين الكاتبتين أخيراً، كنت في وضع ينطبق عليه المثل الإنجليزي: “misery loves company”. كانت بذور التمرد التي حملتها في داخلي منذ الطفولة قد نمت وأزهرت منذ زمن بعيد يسبق تعرفي إلى كتاباتهما، وها أنا اليوم أرعى تلك الثمار بعناية.
كما أن إقراري بتبني الفكر النسوي لم يكن قراراً اتخذته بين يوم وليلة، ولم يكن مجاراة للموضة ولا انسياقاً وراء قطيع ما. فالحقيقة التي قد لا يعلمها الكثيرون هي أن الإعلان عن كون المرء نسوياً يحتمل الكثير من العواقب السيئة، حتى في البلاد التي ترفع شعارات الحرية والمساواة، والتي أعيش في إحداها منذ أكثر من ثمانية أعوام.
لن أخفي عليكم بأن لنشأتي الدينية تأثير كبير على تشكيل نسويتي، فقد تربيت في كنف عائلة متدينة جداً، تحتفظ في رفوفها بكتب أبرزها “فقه السنة” و “رياض الصالحين” و “تفسير ابن كثير”. كان في منزلنا كذلك نسخة قديمة من كتاب “قصص الأنبياء” الذي احتوى على الكثير من النصوص الإنجيلية ونصوص من العهد القديم، وبالأخص “سفر التكوين” والكثير من “الإسرائيليات” الأخرى. أمضيت أعواماً طويلة برفقة تلك الكتب، أقرؤها بعناية، ولطالما حاولت التصالح مع محتواها إرضاءً لعائلتي، فلم أفلح. كان أبواي يطمحان، عبر اقتناء هذه الكتب وتوفيرها في منزلنا، إلى تنشئتنا على حب تلك الكتب واتباع وصايا أصحابها، إلا أنها أثمرت نفوراً كبيراً في نفسي، وتشكل لدي فهم حقيقي للبطريركية القائمة على الأوامر الإلهية، حتى قبل أن أتعرف إلى مصطلح “البطريركية”! فلا أنا رضيت أن يشبّهني أحدهم بالشياطين، ولا أحببت تشبيه الرب الإله لي بالأفعوان واتهامه لي بأنني أصل الخطيئة، ولم أتقبل – ولو على مضض – بأن “للرجال عليهن درجة”، ولم أستطع أن أرضى لنفسي منزلة القاصر التي تحتاج وصاية الوليّ مدى الحياة.
حدث ذلك كله، ولم أكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من العمر. إلا أن ذلك لم يكن كل شيء، ولم تكن تلك سوى البداية التي استلزمت معاركة حقيقية للحياة اليومية للتعرّف إلى مدى تغلغل تلك الأفكار في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا.
شاءت الأقدار أن أكون الابنة البكر لأبي. لم تتورع جدتي يوماً عن التحسر على حظ أبي العاثر لأنه لم يحظَ بابنٍ بكرٍ ذكر، وكل ذلك على مرأى ومسمع مني شخصياً. فعرفت منذ وقت مبكر جداً ما معنى أن يكون الإنسان أنثى، “وليس الذكر كالأنثى.”
مرت السنوات، فأنهيت دراستي الثانوية، وحصلت على قبول في الجامعة الأردنية. ووسط فرحتي بذلك، اجتمع رهط من رجال العائلة مع أبي في منزلنا ذات مساء، محذرين إياه من إرسالي إلى جامعة “مختلطة” يجلس فيها الشباب بجوار الفتيات – والعياذ بالله! ومما لا شك فيه، لم يكن ذاك الجدال ليحدث لو أنني كنت ذكراً. كنت محظوظة جداً بأن والدي – رغم تدينه الشديد – كان من أشد المناصرين لتعليم الإناث وأكثرهم إيماناً بضرورة الاستقلال المادي للمرأة، فدخلت إلى الجامعة رغم أنف الجميع، بدعم من والدي الحبيب. لم يكن ممن يدعمون الاختلاط بالطبع، إلا أنه رأى في عدم توفر جامعات خاصة بالإناث ما يسوّغ ارتكاب “المحظور”.
مضى الأمر بسلام، وكان من الممكن جداً ألا يمضي بذلك اليسر. لقد كان مستقبلي في الحياة متعلقاً بقرارات رجال العائلة. ماذا لو أذعن أبي إلى ضغوطاتهم؟ ماذا لو أنهم لم يقتنعوا ببرهانه؟ ولماذا تكون حياتي ملكاً لهم، وقراراتي متروكة لهم، يرسمون، ويخططون، وأنا أتلقى قراراتهم بالسمع والطاعة، والشكر والامتنان؟
كنت محظوظة فعلاً، فلقد شهدت بأم عيني بكاء زميلات لي رفض أهلهن أن يتممن تعليمهن الجامعي بحجة الاختلاط، وأخريات انتزعت أحلامهن منهن قسراً بالزواج التقليدي، والضغوطات المستمرة عليهن من محيطهن بأن يسارعن إلى الإنجاب وإلا فمصيرهن أن يحملن لقب المطلقة أو الزوجة الأولى…
… ولم أكن بالطبع ممن يرتضين لأنفسهن أياً من هذه الأدوار. فالمنطق، لا بل البديهة، تقتضي أن تكون قرارات مصيرية كالزواج والإنجاب متروكة لأصحابها. لم تستطع طبيعتي الجامحة أن تتقبل أو تذعن إلى تلك الانتهاكات الصارخة بحقي كإنسانة أولاً، وأنثى ثانياً.
ومرت السنين، وانتقلت للعيش في بلد ينتمي إلى ما يسمى بـ “العالم الغربي.”
هل انتهى كل شيء بانتقالي إلى الغرب؟ أبداً. على العكس، فلقد ساهم ذلك في إدراكي أن المرأة مقموعة، قراراتها المصيرية في يد الغير، في كل مكان، وأن معاناتها ليست حكراً على شرقنا. فكما تعج المحاكم الشرعية في الشرق بكل ضروب امتهان المرأة تحت غطاء الدين والعادات والتقاليد، لا يزال جسد المرأة في أمريكا محطاً لنقاش رجال السياسة، في كل محفل ومقال، وفي كل حملة انتخابية. لا تزال المرأة تجد نفسها مضطرة للمثول أمام خيارين: إما العمل والدراسة وإما الأمومة. لا تزال قيمة المرأة محصورة في جمالها، وفي “عفتها”، وفي قدرتها على إقامة حياة زوجية ناجحة. لا زلت أذكر ذلك اليوم من عام 2012، حين اتصلت فتاة جامعية تدعى “ساندرا فلوك Sandra Fluke” بمقدم برنامج إذاعي يتابعه الملايين من الأمريكان، واسم الرجل “راش ليمبا Rush Limbaugh”. عبرت الفتاة عن رأيها بوجوب تغطية تكاليف وسائل تنظيم الأسرة وشمولها في أنظمة التأمين الصحي، فما كان من صاحبنا الأمريكي المولِد والمنشأ إلا أن أمطرها بوابل من أقذع الألقاب. وبعد أن أنهت المكالمة، أضاف الرجل متهكّماً بأن صاحبات الفكر النسوي ضروريات من أجل إفساح المجال للنساء القبيحات في المجتمع.
ودعوني أؤكد لكم أن السيد “راش ليمبا” ليس سوى غيض من فيض، ولن يتسع المجال هنا لذكر جميع نوادر الإعلاميين والسياسيين “الفقهاء” من الأمريكان، الذين ادعى بعضهم أن جسد المرأة يمتلك ميكانيكية خاصة تمكنه من نبذ الحمل الناتج عن الاغتصاب…
لست أرى فرقاً كبيراً بين المذكور أعلاه، وبين أفكار السيد “الحويني”!
ولهذا كله، وغيره الكثير، أعلن أنني نسوية، “فيمينست”، نشأت نسوية وكبرت نسوية، وسأبقى نسوية. لا يهمني أن تُعرَض أمامي نماذج قليلة متفرقة من نساء يحظين بالحرية والمساواة، ولن أقبل باتخاذهن دليلاً مضللاً على أن المرأة قد حصلت على كامل حقوقها في كل أرجاء العالم، ولن تضحكوا على ذقني بأن منحتموني الحق في السفور إن شئت، بينما تقبع الشريحة الأكبر من نساء مجتمعاتنا تحت قيود الأب والزوج ورجل الدين والسياسة، يعشن حياة لم يخترنها، حياة مرسومة لهن سلفاً قبل قدومهن إلى الحياة.

النسوية

وسوم :

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015