ماريانا مراش: حلبية فصيحة غيّرت الصورة النمطية للمرأة السورية

جيرون- رقيقة الشمائل، عذبة المنطق، طَيّبة المعشر، حسنة الجملة، رائدة نسائية وسابقة لعصرها، خاضت غمار الصحافة قبل 170 عامًا، حثت المرأة على التحرر في وقت كانت فيه المنطقة العربية غارقة في مفاهيم الذكورة وغيوم التخلف، وأصبحت أنموذجًا احتذت به نساء سوريات وعربيات كثيرات.

ماريانا مراش، شاعرة سورية حلبية، أحبت الغناء والفنون، فعزفت على البيانو والقانون، وفي الوقت نفسه، كانت كاتبة ورائدة من رواد الصحافة العربية، وصاحبة أول صالون أدبي تقيمه امرأة ناطقة بالعربية، جريئة في كتاباتها وقاطعة كحد السيف، انتقدت انحطاط الكتابة في زمنها، وحرضت بنات جنسها على التحرر؛ لتحسين مستوى حياتهن، فكانت مثقفة رائدة و(أخت للرجال).

قليل من يعرف أن المرأة السورية أسهمت، أواخر العهد العثماني، إسهامًا كبيرًا، يوازي -أحيانًا- إسهام الرجل في النضال الوطني والدعوة إلى الاستقلال، والارتقاء بثقافة المجتمع، والاطلاع على الآداب باللغات الأخرى، والمحافظة، في الوقت نفسه، على اللغة العربية لغة أنيقة للأدب، وفي تاريخ سورية كثير من السيدات، ممن كانت لهن بصمات مشرقة في هذا المجال، إسهاماتهن جديرة بالوقوف عندها، وتسليط الضوء عليها، وخاصة تجربة تلك السيدات اللواتي عملن في بيئة صعبة، حيث كانت النساء في منتصف القرن التاسع عشر غير متعلمات ومهمّشات، وبعيدات عن أسس النهضة الأدبية والاجتماعية، في ظل استعمار عثماني صعب، وكانت مراش من أوائل الأصوات النسائية السورية الداعية للنهضة، وحثت المرأة على الأخذ بالعلم والثقافة سلاحًا لها في تلك الفترة.

وُلدت قبل نحو 175 عامًا، وبالتحديد عام 1848 في حلب لعائلة شغوفة بالكُتُب ومنفتحة على الشعر والأدب والصحافة، وكان والدها، فتح الله مراش، يمتلك مكتبة تضم كتبًا ومخطوطات فريدة نادرة، وقام بتأليف كُتُبٍ، لكنه لم ينشرها، ولها شقيقان: فرنسيس، عالم وطبيب وشاعر، وعبد الله، من أركان النهضة الأدبية في حلب.

درست فن الموسيقا وأتقنته دون أستاذ، وعزفت على البيانو كفتاة أرستقراطية عاشقة للشرق، وكانت أيضًا من هواة الغناء، صاحبة صوت شجي. دَرّسها والدها أصول قواعد اللغة العربية، وأتقنت الإنكليزية والفرنسية أيضًا، ورفع أخوتها من مستوى معارفها الأدبية، وما إن امتلكت المهارة والأدوات حتى بدأت تكتب في الصحف والمجلات؛ فكانت أول سيدة عربية تكتب في وسائل الإعلام، ولأنه لم يعجبها الاهتمام الزائد من بنات عصرها بالزينة والجمال، رأت أن من واجبها أن تجعلهن يلتفتن إلى أهمية زينة العلم والأدب، فانتقدت عاداتهن، وأشاعت بينهن روح التحدي، وحثّتهن على القراءة؛ وحتى على ممارسة الكتابة.

لم يكن هدفها الخروج عن التقاليد أو تدمير الموروث، بل تغيير نمط التفكير السائد في ذاك العصر، وتشجيع المرأة على الانخراط في المجتمع لتتبوأ مكانتها الطبيعية، وكانت تأمل أن تتحلّى المرأة السورية بالشجاعة الكافية للتعبير عن رأيها وتفكيرها؛ لتستطيع التأثير في المجتمع حاضرًا ومستقبلًا.

انتقدت في كتاباتها انحطاط الكتابة، وحرّضت على تحسين الإنشاء وترفيه الموضوعات والتفنن فيها، فكانت بحق رائدة فكر ونهضة.

سافرت إلى أوروبا، واطلعت على الحضارة الغربية، وألهمها ما رأته من مساواة بين المرأة الرجل، أرادها كثيرون للزواج في أول صباها، فأبت؛ لأنها كانت تنوي أن تظل عازبة، ثم أقنعها ذووها، وبعد عودتها من أوروبا تزوجت، ولم يمنعها هذا الزواج من تحقيق حلمها بافتتاح صالون أدبي في منزلها، فكان أول صالون من نوعه في الشرق العربي، قبل صالون (مي زيادة) في وادي النيل، جمعت فيه بشكل دوري نخبة من أدباء سورية.

عاشت مراش في فترة زمنية ندر فيها اهتمام الرجال بالقراءة والكتابة، وضيّق فيها العثمانيون على كل الأقلام والأصوات، وأسهبوا في نفي أو سجن أو تهديد كل من يهتم بالثقافة والكلمة والصحافة، فظهرت نجمةً في سماء مظلمة، وما زاد من تميّزها عن غيرها من رائدات الصحافة صالونها الأدبي الذي استقبلت فيه النخبة الأدبية؛ لتقدم (النخبة) ما لديها، ولتُسمعها –في المقابل- بعضًا من شعرها ومن معزوفاتها الساحرة.

قضى عليها مرض (العصاب) الذي أصيبت به في سنوات عمرها الأخيرة، وتوفيت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1919 عن 71 عامًا.

كانت كتابتها في الصحافة بمنزلة “عمل خارق” في ذلك الوقت، ترك أثرًا في تاريخ الصحافة العربية، وفتح سبقًا للمرأة العربية لتكون شريكًا في السلطة الرابعة، ودعت مراش النساء للاهتمام بتعليم البنات، والتحلي بالشجاعة الأدبية، والإسهام بالقول والعمل في مجالي الآداب والمعارف، وأثّرت كتاباتها على كتابات غيرها من سيدات ذلك العصر.

ألبسها العلامة اللبناني الفيكونت فيليب دي طرازي، وهو من أشهر مؤرخي الصحافة العربية، وصاحب كتاب (تاريخ الصحافة العربية) المنشور عام 1913، تاج الريادة الصحافية النسائية في العالم العربي، وكتب: إنها كانت أول سيدة عربية كتبت في الصحف السيارة، وأصبحت معلومته، هذه فيما بعد مرجعًا لتأكيد ريادتها في الصحافة العربية.

في صالونها كانت تُعقد الاجتماعات، وتطول السهرات، وتقيـم مجالس الأدب والمساجلات الشعرية والأدبية، وكانت هذه اللقاءات ملتقى كبار الرجال من أدباء وشعراء ومفكرين، وحتى رجال سياسة وسلك دبلوماسي، وكانت صاحبة البيت تؤنس الأجواء بشعرها أحيانًا أو بأنغام الموسيقا والأغاني.

ماريانا مراش مثال للمرأة السورية المبدعة والمفكرة والمشاركة في صناعة الحياة الفكرية، الاطلاع على تجربتها يُغيّر الصورة النمطية للمرأة السورية ما قبل عصر النهضة، فما قامت به يعيد صياغة دور المرأة السورية خصوصًا، والعربية عمومًا، في مرحلة القرن التاسع عشر، وهو قرن التأسيس للنهضة، وانتشار الصحافة، وانعتاق الفكر من قيوده.

السورية ماريانا مرّاش

السورية ماريانا مرّاش

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015