موقع “تطورات جنيف”- تزوجته عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها، بعد عام ونيف قُتل على إحدى جبهات الغوطة الشرقية في ريف دمشق، لم تعلم أنها حامل بإبنته لحظة وفاته، راما (16 عاماً)، لم تدرس ولا تملك اليوم فرصة لمتابعة دراستها، حصلت على شهادة الابتدائي فقط قبل أن تصبح زوجة.
نساء الحرب
راما ليست الوحيدة في الغوطة الشرقية التي تتقاسم ومثيلاتها مصيراً مشابهاً، تزوجن بسن مبكر نتيجة لثقافة الزواج عموما في تلك المجتمعات، ونتيجة الظرف القاهر الذي تمر به سوريا اليوم، فإذا ما اشتعلت الأرض ناراً أزهرت السماء فطلب الناس الموت، وإن لم يطلبوا هذا الأخير شحنوا أنفسهم دفاعاً غريزياً عن بقائهم بالقتال تارة، وبالزواج تارة أخرى، فبات طبيعياً زواج شاب لم يتجاوز سن الثامنة عشرة من فتاة بعمر ثلاثة عشرة عاماً أو أقل، وحال هذا الشاب كالكثيرين، يعمل مقاتلاً أو ناشطاً إعلامياً، أو ممرضاً في مستشفى ميداني، أو في شأن قريب، وإن كان لا يأمن الإنسان على نفسه، مهما عمل، في منطقة كالغوطة الشرقية الرازحة تحت حصار نظام الأسد منذ سنوات، والخاضعة لكل أصناف القصف بمختلف أنواع الأسلحة.
رجال الحرب هؤولاء يتركون ورائهم نساء أرامل، أو يُعتقل الرجل فتصبح زوجه معلقة لا متزوجة ولا مطلقة، ترمي نفسها على الحياة بكل ما يمكنها لتبقي قلوب أبنائها نابضة، ليسوا جميعاً كحال راما التي بقيت في بيت أهل زوجها بعد وفاته، تنال بعض العون منهم ومن معاش خصص لـ “شهداء جيش الإسلام”، فبعد أن تجاوزت راما حالة الصدمة التي أدخلتها غيبوبة استمرت لأيام أقامت فيها بغرفة الإنعاش بإحدى النقاط الطبية في دوما، بدأت تتفهم موقفها بأنها أرملة بعمر السادسة عشرة وطفلتها الصغيرة بحاجة لأم قوية وإن كانت هذه الأخيرة بحاجة لأمها.
بحاجة لأمها لا لشفقة الناس عليها وتكرار كلمة “يا حرام أرملة”، وفي أحسن المبادرات يحاولن “الستر عليها” أي البحث لها عن زوج، لكن راما ترفض الفكرة من أصلها، وقررت أن ترتب حياتها لتحمي وتربي ابنتها وحيدة وصغيرة، ما أثار حزنها وبكائها الدائم، ولتبقى في حالة حداد على زوجها، ومن ثم باتت تخاف الليل الذي يزيد من وحدتها، وترفض نسيان زوجها الذي تعتقد بأنها لم تبذل الجهد الكافي لحمايته من الموت على الجبهة، وتتخبط بهذه المخاوف إلى اليوم، ورغم كل هذا، مازالت في بداية عمرها وتملك الكثير من المواهب، لكنها لا تملك السبيل والمقدرة النفسية للخروج من الماضي، بحسب المختصة النفسية رشا، والتي تشرف على حالتها وتحقق بعض التحسن معها.
إلا أن رشا لا تنجح دائماً، فقد فشلت بإنجاز تقدم حقيقي مع وسام (26 عاماً)، والتي لا تعرف عنها اليوم أي معلومات، ولكنها تتذكر بأنها أم لثلاثة أطفال، وزوجها كان قد اعتقل منذ بداية الثورة وهي بقيت في بيت زوجها تنتظره، ولكنها اعتقلت هي أيضا وبقيت في سجنها عامين، نالت فيهم من العذاب الشيء الكثير، الضرب والتعذيب، التعرية لأيام في زنزانتها، والإجبار بأن تسير عارية أمام الجلادين والمحققين والسجانة والمعتقلين الأخرين بطبيعة الحال، وتبعتها لعنة المجتمع وردوده السلبية، فقد حملها مسؤولية اعتقالها رغم أن لا ذنب لها كآلاف المعتقلات السوريات الأخريات، واللاتي نالهن من العذاب أضعاف مضاعفة، فالاغتصاب والتعذيب الممنهجين أصابا أكثر من سبعة ألاف معتقلة سورية وفق توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وسام استخدمت الجنون سبيلا لحماية نفسها في المعقتل، فأخذت تضرب نفسها وتشد شعرها لتهرب من خطر الاغتصاب فرافقها الجنون بعد خروجها المفاجئ من المعتقل، لتعود إلى الغوطة تقريبا فاقدة كثيرا من قدراتها الذهنية والعقلية، ما أعطى أهل زوجها الذي مازال نزيل سجون الاسد، الذريعة لمنعها عن أولادها، ما زاد من مشكلتها النفسية وعمقها.
أرقام
ما نتحدث عنه هو مجتمع محاصر يضم حوالي 55 ألف عائلة، تصل فيه نسبة البطالة بين الرجال لأكثر من 75%، وتعمل فيه النساء لتأمين لقمة العيش، فأكثر من نصف هذه الأسر اليوم تعيلها إمرأة، في كل عائلة قتيل أو معتقل أو معاق أو مصاب أو مقاتل، أي مشروع لإحدى الحالات السابقة، هناك بعض المؤسسات التي ترعى هذه الاسر ولكن في ظل الظروف المعاشة اليوم هناك يبقى سؤال الكفاية، فهل تكفي تلك العائلة عشرة ألاف ليرة سورية شهريا، في حين ثمن كيلو السكر على سبيل المثال لا الحصير تجاوز 800 ليرة سورية، وهل يكفي المال ليعوض ذوي الضحايا ما فقدوا بفعل نظام لا يميز بين الحجر والبشر، ولا يميز بين عسكري ومدني، الكل في تصنيفه مجرومون وإن أثبتوا العكس.
هذا المجتمع الأنثوي بجانبه الاقتصادي الخيري والحربي، تنخره الأمراض من كل جانب، ويعطي النظام وداعميه فرصة للقول بأن الإسلاميين عندما حكموا تلك البقعة انظروا ماذا جرى؟ والسؤال يدار بطريقة مختلفة أكثر اقترابا من الواقع، انظروا لتلك الجماعة الإنسانية ماذا أصابها نتيجة حصار النظام لها من كل صوب، وضربه لها بالموت كل يوم؟
الفئات الضعيفة فيها باتت اليوم بأمسّ الحاجة للدعم بكل أشكاله، ونفسيا بحاجة لأن تعيد النظر في وجودها كلياً، فهذه الفئات لا تعتبر وجودها إلا عائقاً وثقلاً اجتماعياً وتحمل نفسها المسؤولة دون سبب، كحال راما التي اعتبرت موت زوجها على الجبهة نتيجة تقصيرها في حمايته، ووسام التي اعتبرت أن ذنبها بالاعتقال حرمها أولادها وحرمها حياتها برمتها.
لتكامل العمل برأي الداعمة النفسية رشا، “يجب العمل مع الأمهات بشكل مباشر لأنهن بحاجة للتوجيه، ففي أثناء الثورة فُرض على المرأة إضافة لدورها بان تكون رجلاً، بسبب غياب الرجل، اعتقال أو قتل أو إصابة”، وتؤكد رشا بأنه وإن كان الرجل موجود “فهو مُغيب بسبب قلة فرص العمل المتاحة للرجل، والمرأة هي المعيل الوحيد للأسرة، فأصبحت تتمرد على الثقافة المجتمعية بشكل سلبي ومدمر للعائلة، فارتفعت نسبة الطلاق إلى ما يزيد عن 45% من حالات الزواج، وساهم الزواج المبكر في ارتفاع هذه النسبة”.