محمد يسري/irfaasawtak- “شهادة المرأة تعادل نصف شهادة الرجل”. هذه هي القاعدة العامة لشهادة المرأة في الفقه الإسلامي. واعتمد الفقهاء الأوائل على بعض النصوص القرآنية والحديثية لتأكيدها. ومن أشهر تلك النصوص ما جاء في الآية رقم 282 من سورة البقرة “…واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى…”، والحديث المنسوب للنبي والوارد في صحيحي البخاري ومسلم “…ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن فقيل: يا رسول الله، ما نقصان عقلها؟ قال: أليست شهادة المرأتين بشهادة رجل؟”.
لكن بعض الفقهاء وصلوا إلى حد منع المرأة من الشهادة مطلقا في بعض المواضع، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحدود والدماء (السرقة، القتل.. إلخ)، وفي القضايا المتعلقة بالزواج. في المقابل، عملت بعض الآراء الفقهية على إنصاف المرأة في قضية الشهادة.
الرأي الفقهي التقليدي
يعتمد الرأي التراثي التقليدي على ما جاء في الآية رقم 282 من سورة البقرة باعتباره نصاً محكماً واضح الدلالة والمعنى، لا تجوز مخالفته بأي حال من الأحوال. بنى الفقهاء القدامى على هذا النص الحكم بأن شهادة المرأة تعادل نصف شهادة الرجل في جميع الأمور المختصة بالأموال والدين.
من جهة أخرى، اعتمد هؤلاء الفقهاء على بعض الأحاديث والآثار فرفضوا قبول شهادة النساء في جميع الجرائم التي تُطبق فيها الحدود، كما قالوا كذلك بعدم جواز قبول شهادة النساء في عقود الزواج اعتماداً على حديث “لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل”.
على سبيل المثال، يقول التابعي ابن شهاب الزهري: “مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلَا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ”. وقد حكى بعض الفقهاء عن وقوع الإجماع على تلك الفتوى. مثلاً ذكر ابن عبد البر المالكي في القرن الخامس الهجري أنه: “لا مدخل لشهادة النساء عند جميع العلماء في الحدود”، كما قال ابن العربي الأندلسي في القرن السادس الهجري: “أجمع أهل العلم على عدم قبول شهادة المرأة في الدماء، والفروج”.
آراء تراثية مخالفة
ظهرت بعض الآراء الفقهية التراثية التي خالفت العرف السائد في تلك الأزمان. سمحت تلك الآراء بإدلاء المرأة بالشهادة في بعض المواقف والظروف. على سبيل المثال، شكك فقهاء الحنفية في حديث “لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل”. ومن ثم ذهبوا إلى صحة عقد الزواج في حالة أن شهد عليه رجل وامرأتان.
في سياق آخر، فتح فقهاء الحنابلة الباب واسعاً أمام إدلاء المرأة بشهادتها في العديد من الحالات المرتبطة بالشؤون النسائية. قال ابن قدامة المقدسي الحنبلي في المغني: “لا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافاً فِي قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ (أي دون شاهد رجل معهن) فِي الْجُمْلَةِ… وَاَلَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: الْوِلَادَةُ، وَالِاسْتِهْلَالُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْعُيُوبُ تَحْتَ الثِّيَابِ كَالرَّتَقِ وَالْقَرَنِ وَالْبَكَارَةِ، وَالثِّيَابَةِ وَالْبَرَصِ، وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ”.
أما ابن تيمية، فأجاز قبول شهادة النساء في الحدود والدماء إذا ما اجتمعن في حفلات الزفاف والحمامات لأن تلك الأماكن لا يتواجد فيها الرجال عادةً، وإذا ما وقعت جريمة ما في تلك المواضع لم يكن من شاهد عليها سوى النساء الحاضرات.
في سياق آخر، وسع ابن القيم الجوزية في كتابه “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” المجال أمام شهادة النساء عندما اعتبر أن النص القرآني لم يُلزم الحاكم/ القاضي بالاعتماد على شكل واحد من الشهادة، وأن هناك فارق بين طريقة حفظ الحقوق التي وردت في النص القرآني وطريقة الحكم في تلك الحقوق.
قال ابن القيم شارحاً تلك النقطة: “…وليس في القرآن ما يقتضي أنه لا يُحْكَم إلا بشاهدين، أو شاهد وامرأتين، فإن الله سبحانه إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النِّصاب، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به، فضلاً عن أن يكون قد أمرهم ألا يقضوا إلا بذلك. ولهذا يحكم الحاكم بالنكول، واليمين المردودة، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهن… فطرق الحكم شيء، وطرق حفظ الحقوق شيءٌ آخر، وليس بينهما تلازم، فتحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم ممَّا يعلم صاحب الحق أنَّه يُحفظ به، ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه، ولا خطر على باله…”.
بين الفقهاء المعاصرين والقانون
تعددت الآراء الفقهية المعاصرة التي أنصفت المرأة فيما يخص مسألة الشهادة. على سبيل المثال، أرجع مفتي الديار المصرية الأسبق، محمد عبده التمايز بين شهادتي المرأة والرجل في مسائل المعاملات المادية إلى طبيعة العصر والظروف السائدة زمن نزول النص القرآني. يقول عبده في تفسير المنار: “تكلم المفسرون في هذا، وجعلوا سببه المزاج ، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها أقوى ذاكرة من الرجل، يعنى أن من طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها”.
أما شيخ الأزهر الأسبق، محمود شلتوت فقد خصص جزءاً من كتابه “الإسلام عقيدة وشريعة” لتناول تلك القضية، وقال: “إن النص ليس وارداً في مقام الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم، وإنما هو وارد في مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل”. أشار شلتوت كذلك إلى أن هناك عدداً من الحالات التي تتكافأ فيها شهادة المرأة مع شهادة الرجل. على سبيل المثال في اللعان -وهو إذا اتهم رجل زوجته بالزنى، وليس لديه أربعة شهداء عليها- يشهد الرجل خمس شهادات بأنها زانية، وتشهد المرأة خمس شهادات بأنها بريئة، وهذا يدل على المساواة في الشهادة.
ذهب المفكر الإسلامي محمد عمارة إلى المعنى نفسه في كتابه “التحرير الإسلامي للمرأة” عندما ذكر أن الآية القرآنية التي يستدل بها التراثيون على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل إنما “تتحدث عن (الإشهاد) وليس (الشهادة)، فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة، واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معياراً لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها… وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة، بصرف النظر عن جنس الشاهد، ذكراً كان أو أنثى…”.
من جهة أخرى، دافع الفقيه الإصلاحي التونسي الطاهر حداد في ثلاثينات القرن العشرين في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” عن حق المرأة في أن تكون شهادتها كاملة كالرجل. نظر حداد إلى النص القرآني الذي جعل شهادة الرجل تعادل شهادة المرأتين على كونه خطوة في طريق المشاركة النسائية في الشأن المجتمعي وأنه ليس تشريعاً ختامياً يمكن الركون إليه إلى الأبد.
يقول الفقيه التونسي: “ليس هناك ما ينص أو يدل أن ما وصل إليه التدرج في حياة النبي هو نهاية المأمول الذي ليس بعده نهاية، ما دام التدرج مرتبطاً بما للمسائل المتدرج فيها من صعوبة يمكن دفعها عن قرب أو وعورة تستدعي تطور الأخلاق والاستعدادات بتطور الزمن”.
أما المفكر والسياسي السوداني حسن الترابي فقد كان أكثر جرأة عندما نفى أن شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد، وقال: “ليس ذلك من الإسلام أو الدين، بل هي مجرد أوهام وأباطيل وتدليس أريد بها تغييب المرأة وسجن العقول في الأفكار الظلامية التي لا تمت للإسلام في شيء”.
في سياق آخر، شهدت المدونات القانونية للدول العربية اختلافاً كبيراً حول تقييم شهادة المرأة. على سبيل المثال اعتمد قانون الإثبات السعودي على المدونة الفقهية التراثية بشكل صارم عندما طلب أربعة شهود رجال في قضايا الزنا، واكتفى بشهادة رجلين في عقوبات القصاص والحدود، فيما سمح بقبول شهادة رجل وامرأتين في قضايا الدين.
يختلف الوضع بالنسبة للقانون المصري. فرّقت المدونة القانونية بين كون محل الشهادة أمرا من الأمور التي تحكمها قوانين الأحوال الشخصية والأسرة والتي يلزم فيها إحضار شاهدين ويتعين أن يكونا رجلين أو رجلا وامرأتين، وبين غيرها من المنازعات المدنية والتي يجوز فيها إحضار شاهد واحد، سواء كان رجل أو امرأة.
اُتبع المنهج نفسه في القانون السوري. فعند وضع مجلة الأحكام العدلية المستمدة من الشريعة الإسلامية، أخذ واضعوها بالنصاب العددي للشهادة المقرر في الشريعة ونصوا عليه في المادة 1685 والتي جاء فيها: “نصاب الشهادة في حقوق العباد رجلان أو رجل وامرأتان، لكن تقبل شهادة النساء وحدهن في حق المال فقط في المحال التي لا يمكن اطلاع الرجال عليها”.
أما فيما يخص المنازعات المدنية، فتنص المادة 59 من قانون البينّات على أنه: “لا يكون أهلاً للشهادة من لم يبلغ سنه خمسة عشر سنة، أو من لم يكن سليم الإدراك أو من كان محكوماً بأحكام جزائية تسقط عنه أهلية الشهادة”. ولم تحدد المادة أي شروط فيما يخص جنس الشاهد.
يختلف الأمر في القانون العراقي. بالرجوع إلى نصوص قانون الإثبات العراقي نرى أنه لا يوجد أي نص معين، يتخذ من الذكورة أو الأنوثة معياراً من حيث الاستيثاق بالشاهد، ومن ثمّ قبولها أو رفضها للشهادة. وفي ذلك المعنى جاء قرار رقم 32 في 1989/2/19 لمحكمة التمييز العراقية “لا ترد دعوى المدعي بحجة عدم إكمال نصاب الشهادة فإذا كان الشاهدان رجل وامرأة فإن قانون الإثبات لم يتطلب جنساً معيناً في الشهود وإنما جاءت نصوصه مطلقة عند ذكر الشهادة كوسيلة من وسائل الإثبات وعليه فالمطلق يجرى على إطلاقه مالم يقيد”. وجاء في قرار آخر لنفس المحكمة “إن البينة المعتبرة لا تنبني على نوع الجنس”.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.