جريدة الأخبار/ هبة مرقص- أعلنت الكاتبة جمانة حدّاد افتتاح عرض «قفص» المقتبس عن نصّها الصادر عن «هاشيت ــ أنطوان» عام 2014، بملصق لافت يظهر حقيبة نسائية مفتوحة، أُخرِجَت منها بِطانَتها لتحاكي مهبلاً، واعدةً بمحادثة صريحة عن المرأة وهمومها وشؤونها.
تقدّم حدّاد في النصّ الأساسي ـــ وهو موضوعنا هنا ـــ رؤيتها المتكاملة والمفصّلة للعرض: خمس نساء «محبوسات»
في أقفاصهنّ، يحاورهنّ رجلٌ يتنقّل حرّاً بينهنّ، وهو الذي يدير الحديث. رسمت الكاتبة الخطوط العريضة لشخصياتها حول أعمارهنّ، وملابسهنّ، وأشكالهنّ الخارجية، و«عِلَلِهنّ» أي «أقفاصهنّ»: لمى عانس، زينة منقّبة، هبة مومس، يارا مثلية، وعبير ممتلئة. تعرّف النساء عن أنفسهنّ باستخدام السردية البطريركية التي تفترض الكاتبة أنّها ما يراه «المجتمع» في هؤلاء النساء: «عِلَلهنّ»، أقفاصهنّ. ينتهي المشهد الأول باستبدال أدوار حيث تقوم النساء بكسر أقفاصهنّ، ورمي غطاء رأس المحجبة على رأس الرجل وحبسه في قفص، بعد إعلانهنّ عن «أخوّتهنّ الكونية»: العانس هي المومس، والمومس هي المحجبة… يتواصل استبدال الأدوار في المشهد الثاني حيث يتّخذ الرجل الدور المفترض للمرأة: يكنس، ويُقاطَع، وتَطلب منه المرأة السكوت. تنتهي المسرحية بقتل الرجل للمرأة برصاصة في قلبها، وبإعلانٍ شموليٍّ آخر: كلنا نعيش في أقفاص، كلنا نحتاج للتحرّر من أقفاصنا.
إنّ سرديّة حدّاد ـــ وإن كانت آسرة باستخدامها للغة الشارع الجريئة وواعدة في نقد ونقض الأفكار البطريركية ـــ تخطئ الهدف في الخاتمة، ولا تقدّم أكثر من رسالة «كلنا إخوة وأخوات، وكلنا محبوسون». وقد يكون هذا موقف حدّاد السياسي والفكري الذي وُصِف على غلاف الكتاب بالـ«حرّية الجذريّة». لكن هل فعلاً كلّنا أخوات؟ هذا قبل التطرّق أصلاً إلى موضوع «كلّنا إخوة». وهل من حقّ حدّاد إعلان ذلك نيابةً عنا جميعاً؟
إنّ نسوية «كلنا أخوات» افتَرضت وحدوية المظلومية ووحدة المطالب النسوية كحريّة العمل خارج المنزل والحرية الجنسية. واعتبرت النسوية الراديكالية أنّ توعية النساء و«تحرير» فكر المرأة وتحفيزها للانضمام الى «الثورة» هذه، تعدّ من مسؤوليتها (ما أصبح يعرف بـwhite woman’s burden). ما فات هؤلاء المناضلات (وهنّ مناضلات عن حقّ، لا خلاف) أنّ المرأة الفقيرة تعمل خارج المنزل منذ زمن، والمرأة المُستَعمَرة أرضها، تقاتل محتلّها الى جانب رجال وطنها ضدّ الاستعمار، وأنّ كثيرات لا يجدنَ مكاناً لهنّ في الثنائية الجندرية «امرأة/ رجل» من الأساس. هن انضوين تحت لواء نسوية العالم الثالث لاستعادة تمثيل النساء من أصول غير أوروبية. تمثيل اختزله وسرقه فكر الحركة النسوية الراديكالية السائد منذ أوائل القرن العشرين.
من رحم ذلك التعتيم والإخفاء القصري لأصوات هؤلاء النساء، ولدت الأعمال الفلسفية والاجتماعية والأكاديمية النقدية لعشرات المفكرات والفنانات والناشطات من أميركيات ذوات أصول أفريقية ولاتينية، وهنديات وأفريقيات من المستعمرات الأوروبية السابقة. وقد رسّخت هذه الأعمال قواعد أساسية لعمل نسوي يحترم تنوّع النساء، واختلاف تجاربهنّ وأنواع القمع في الحياة بالشكل الآتي:
1ــ عدم مصادرة أصوات النساء تحت عنوان «أنا امرأة أيضاً». فأي حرّية نتكلّم عنها إن كنّا حكمنا مسبقاً على المحجّبة بأنّ حجابها علّتها وقفصها؟ وأنّ الفقر و/ أو الاستغلال الجنسي يؤدي حكماً إلى الدعارة؟ فالحقيقة هي أنّ «نساء جمانة حدّاد» في هذا النصّ هنّ انعكاس لما تراه حدّاد فيهنّ. وعدوّ المرأة هنا هو الرجل بإطاره العام Generic. فهل يخفى على حدّاد أنّ منظومات القهر متعدّدة، وهي متقاطعة ومتراكمة بالنسبة إلى السواد الأعظم من النساء، كما أنها تضمّ الكثير من النساء أيضاً، بتعبير أودر لورد: «أي امرأة تلك الهائمة بظلمها حتى لا ترى كعب حذائها مطبوعاً على وجه
الأخريات؟».
نستذكر هنا خاصةً عاملات المنازل واللاجئات، وهنّ جزء أساسي من القهر الممارس يومياً على النساء في لبنان. هل نحن فعلاً أخوات؟ هل أعداء حرّياتهنّ هم ذاتهم أعداء حرّية حدّاد؟ ماذا عن العنصرية والفقر؟ وكما أنّ منظومات القهر متعدّدة، علينا القبول بأنّ الحرّيات التي تتوق إليها مختلف النساء أيضاً متعدّدة.
2ــ الاعتراف بتناقضاتنا الداخلية وبتناقضات النساء الأخريات وتفهّمها وقبولها، أولاً كجزء من تكوين الثقافة الإنسانية وهوياتنا كبشر، وثانياً كنتيجة حتمية للعنف الرمزي واللفظي والجسدي الممارس على النساء. هويّاتنا مركّبة ومعقدة، ومحطّمة ومركّبة من جديد آلاف المرّات. فهل يمكن مجابهة أنواع العنف بقبول هذه التناقضات؟ أثبتت النساء حول العالم، ــ والأمثلة الاثنوغرافية كثيرة ـــ أنّ سعيهنّ لحرياتهنّ لا يحدّه سوى مخيلتهنّ وابتكارهن، ولا يمكن اختزاله بطريقة واحدة لنتيجة واحدة. نساء مساجد مصر طوّرن معرفتهنّ بالدين وصادرن مساحات من هذا الفضاء العام لإسماع أصواتهنّ وآرائهنّ في السياسة والدين والحريات (1)، ونساء فلسطين يحاربنَ الاحتلال بزيادة ولاداتهنّ (2)، وهي «أقفاص» إذا استخدمنا منظار حدّاد.
3ــ الوعي والاعتراف بأننا نرى ما نراه من خلال تقاطع مواقعنا في المنظومة الاجتماعية، ولو غيرنا موقعاً، فإننا لا نملك «بانوبتيكون» Panopticon (سجن مصمّم للإتاحة لمراقب واحد بمراقبة جميع السجناء)، وبالتالي فإنّ نقدنا الاجتماعي تتخلله دوماً مناطق تنقطع فيها الرؤية، لا نضيئها سوى بالاستماع الى الآخر، أو هنا الأُخرى. فهل مونولوجات حدّاد مدعومة بهذا النوع من البحث الميداني الذي ساعدها على تحديد وجهة النصّ؟ لا تذكر ذلك في نصّها على الأقلّ.
مسرحياً، اختارت حدّاد تبديل مواقع الرجال والنساء للتدليل على الثورة على تقاليد الأدوار الجندرية. هي حركة تذكِّر بنظرية فيكتور تيرنير حول الطقوس الثقافية والدينية حيث تبديل الأدوار عند مسرحة الحياة الاجتماعية هو متنفّس لمن هم الأقل حظوةً في المجتمع. لكنّ هذه الحركة تكَرّس ــ بعد انتهائها ــ البنية الاجتماعية بشكل أقوى ممّا كانت عليه، وتسهم في استمراريتها. فهل كان الأجدى استنباط رؤية أكثر إبداعاً من استعارة كلّ أمراض البطريركية لإقناع المشاهد بضرورة المطالبة بالحريّة والمساواة للجميع؟
يبقى أن نرى كيف ستقدّم هذه الأفكار على الخشبة وننتظر كيفية تأثيرها في الجمهور خلال العرض الحيّ.1: «سياسة التقوى: الإحياء الإسلامي ومسألة النسوية» لصبا محمود ــ منشورات جامعة برنستون
2: «توليد الأمة: استراتيجيات النساء الفلسطينيات في إسرائيل» لروضة كناعنة ـــ منشورات جامعة كاليفورنيا