العربي الجديد- تأخذ الحرب أرواح الرجال وحيواتهم وتترك للنساء شبه حياة يقضينها بالأسى والفقدان. غالبا ما تكون معاناة الرجال في الحروب سريعة سرعة الموت، بينما يتمدد العذاب عند النساء المنتظرات حتى يكاد لا ينتهي. وتنفطر قلوبهن وهن يرين أزواجهن وأبناءهن وأخواتهن يموتون يوماً تلو الآخر، وهنّ ما عليهن سوى الانتظار إلى أن تهمد الهيجاء، وتحمُّل كل هذا القدر من الألم. هذا هو حال النسوة السوريات اليوم اللواتي يعانين ألمَ الفَقد كل يوم جراء الانفجار السوري المستمر منذ سنوات، ويزددن في الوقت ذاته قوةً وإصراراً على البقاء، هؤلاء كن موضوع العرض المسرحي “هنّ” المقدم في على خشبة مسرح القباني بدمشق نص وإخراج آنا عكاش.
خمسُ نساءٍ يقفن على خشبة المسرح، لكلٍ منهن حكايتها مع الحرب السورية، إحداهن فقدت ابنها وتخشى أن تفقد الآخر وهو الذي تبقى لها في هذه الحياة الضنك، وأخرى تأمل بأن يعود ابنها المفقود في غياهب الحرب منذ سنوات، الحرب التي سرقت من الثالثة حبيبها الذي حلمت معه بحياة وردية، وتركت الرابعة دون رغبة، لا في الحب ولا في البنين خشية أن تأخذهن الحرب، أما أصغرهن، فلم تع السلم، ولم تعرف طعم السلام، بدأ شبابها ويكاد ينتهي في الحرب، آفلاً أمامها المستقبل.
يتسق التنكير المعتمد بعنوان العرض “هنَّ” مع الشخصيات المسرحية المقدمة في العرض، إذ يتندر العرض بتقديم معلومات عن شخصياته، سوى أنهن نساء سوريات بأعمار مختلفة، يتشحن بالسواد، يجلسن على كراسي حينا، وحينا آخر يتحركن على الخشبة بصورة منتظمة، وأحياناً أخرى يتوقفن على خطٍ أفقي. يستهللن الحديث بمونولوجات عن دمشق، يقتبسن فيها من ابن عساكر ويعدن فيها إلى مثيولوجيا قابيل وهابيل مذكّرات باقتتال الإخوة. يقرعن على الدفوف مشكلات حالة رثائية، يستشهدن بآيات وتراتيل، ويرددن الأذان ترتيلا.
إذن، لا يقدم “هن” شخصيات مسرحية واقعية واضحة المعالم بل يقدم أشباح نساء أنهكتهن الحرب، ولا يروين حكاياتهن عبر حوار درامي يحمل معه الحدث ويرتقي بالحبكة نحو عقدة ما، إنما النص شظايا حكايا، شذرات استلهمت بُنيتها المخرجة من الانفجار الجاري في سورية. هكذا، لا يقدم العرض أي حكاية واقعية تتشابك بخيوط منطقية بقدر ما هو يقدم شظايا سردية، وذلك يجعل من الخطاب المقول على لسان الشخصيات عمود المعنى الوحيد، وتصبح لغة هذا الخطاب ــ في ظل تشظي الحوار والشخصيات والحكاية ـــ هي المسؤولة الأساسية عن نقل أفكار وعواطف هؤلاء النسوة، بيد أن مونولوجات النسوة أتت مباشرة، ولغة النص كانت خطابية رغم إنها عامية بسيطة، إذ ساهم في ذلك إلقاء النسوة لأجزاء كبيرة من سردياتهن بصيغة خطابية للجمهور، لا تكسر الإيهام فيتفاعل الحضور ولا تتبنى شخصية وتتعايش معها فيتطهر (بالمعنى الأرسطي للكلمة) المتلقي. لا يمكن اليوم، بعد كل هذا الكم من الألم والدم المحيط بالمرأة السورية، أن تتمكن مجموعة مونولوجات سردية، تؤدى بطريقة خطابية أن تؤثر في المتلقي السوري، وهو الذي سئم الخطابات واللغة الإنشائية البعيدة عن الواقع الزاخر.
صبّت عكاش خطابات النص وحكاياته بقالب إخراجي صارم، حركة الممثلات منتظمة، يتحركن توالياً، يجلسن توالياً، يتكلمن توالياً، ويكررن عبارات بعينها توالياً أيضاً، ما عزز من خطابية النص، ومكيانيكية حركة الممثلات على الخشبة اللواتي ظهرن مقيّدات بحركة محددة وأفعال معينة.
لا فضاء محدداً للعرض، العراء الدال على الضياع والوحدة هو الطاغي، و”البرفانات”، الجدران الخشبية، التي تحتجب وراءها النسوة وتحركنها بين الفينة والأخرى كانت إشارة للحُجب التي أضافتها الحرب أمام الأنثى. بينما الكراسي يتغير موضعها بين يمين الخشبة ويسارها ومنتصفها، وينتصب في صدر الخشبة شاشة عرض يُعرض عليها صور لمناطق في العاصمة دمشق، كما يُستخدم جهاز الإسقاط على البرفانات في بعض الأحيان، حيث تظهر الممثلات وهن يتكلمن في شريط مسجل لكل واحدة منهن في مشهد متمايز عن باقي مشاهد المسرحية.
أثكلت الحرب السورية ملايين النساء، أزهقت عواطفهن على مذبح السعار الحربي في بلدهن، ولكن في ذات الوقت، أصبحن أكثر قوةً، وأشد عمقاً وغنىً، ولنا في المرأة الفلسطينية خير مثال. لذلك ستبقى مقاربة المرأة السورية ــ فنياً وأدبياً ـــ عملاً شائكاً يحتاج إلى جهدٍ دؤوب يقدّم المرأة السورية كما يليق بقوتها ومصابها، وتغدو المطالبة بـ(أكثر من ذلك) هي أقل ما يمكننا قوله بـ”هنَّ”.
العرض من إخراج ونص آنا عكاش، تمثيل: إيمان عودة، انعام الدبس، رشا ازغبي، لبابة صقر، جولييت خوري. سينوغرافيا: نزار بلال، الإضاءة: ريم محمد، صناعة المادة الفيلمية: Poor Film.