“ناجيات من الحرب؛ لم ينجين من أنفسهنّ”
سوريات ينتصرن على ويلات الحرب

خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية CSWDSY)- “تذكّرتُ الليلة التي أعدموا فيها عائلة عمّي” هكذا بدأت إحدى الفتيات حديثها خلال الجلسة. كنّا ثلاثة وعشرين شابة مجتمعات بشكلٍ دائري في قاعةٍ كبيرة ونجرّب البوح لإخراج الضغوطات الموجودة داخلنا.

بعد أن طلبت منّا المحامية مديرة جلستنا، أن نغمض أعيننا ونتذكّر موقفاً مؤلماً حدث معنا، قالت: “من يريد التحدّث؟”. أنهت المحامية لحظات التذكّر التي نعيشها وطلبت أن نفتح أعيننا.  تبعت هذه الجملة حالة صمت غريبة؛ كنت متأكّدةً خلالها أنّ كلّ واحدة منّا قد تبادر إلى ذهنها الكثير من الأسئلة خلالها. عن ماذا سنتحدث؟ أيّ الأيام والتجارب هي الأقسى حقاً؟

بصوتٍ مخنوق قالت إحدانا: ” أنا أريد التكلّم.. لقد تذكّرت الليلة التي أعدموا فيها عائلة عمّي بأكملها.. كانت العائلة من ضحايا المجزرة التي حصلت ببداية الحرب في قريتنا. كنتُ صغيرةً حينها، ولكنه كان أكثر مشهدٍ صادم رأيته، ولحدّ الآن أهذي به.. وهذه الصدمة أثّرت كثيراً على أبي؛ الذي فقد النطق إثر الحادثة وأصبح يعيش بحالة اضطراب ذهني، اضطرابات ألحقت الضرر بعائلتنا ككل.. فقرّرت في بداية العشرينات أن أتزوّج للمرة الأولى؛ لأبحث عن الطمأنينة والاستقرار اللذين كنت فاقدةً لهما، ثم تطلّقت بعد سنةٍ واحدة من زواجي الأول، وتزوّجت للمرة الثانية بعد فترة قصيرة ثم تطلّقت.. ولكنّي وها أنا ذا على قيد الحياة بالرغم من تلك الأحداث المشوّهة التي مررت بها”.

بعد مرور بضعة ثوان بدأت أسمع نحيباً ثم بكاءً، وما لبثت الأصوات أن ازدادت كثرةً.

تجرأت فتاة أخرى وبدأت بالحديث عن ألمها الخاص الذي جعل منها على حسب وصفها: “النسخة الأصلب“. فقالت: “أنا أرملة ولدي طفلين وزوجي شهيد.. تزوّجتُ في سنّ مبكرة، وكان أول حبّ لي بحياتي. ثم وبعد إنجابي لطفلي الثاني؛ استشهد زوجي في الحرب. لا يهم ما كان موقفه السياسي، ولا يهم لأي قضية كان ينتمي، فهو الآن غير موجود بجانبي. ومنذ تلك اللحظة؛ بدأتُ العِراك مع نفسي، و مع المحيط. فأصبحتُ الأمّ والأب، والأرملة.. وأنا في بداية حياتي. كنتُ قد تخرّجت لتوي من معهد التعويضات السنية، ولكنه لم يكن الشيء الذي أريد دراسته والعمل به؛ لكني أُرغِمتُ على المتابعة والاستمرار. عملتُ في مخبرٍ للأسنان لمدة سبع سنوات. وعندها كان أطفالي قد أصبحوا كباراً. وبالرغم من كلّ التحدّيات التي واجهتني خلال تلك المرحلة؛ من وضع اقتصادي ونفسي واجتماعي، استطعتُ النجاة.. وقرّرتُ تحقيق حلمي بعد كل هذا الانكسار. أخذتُ الشهادة الثانوية للمرة الثانية، وسجّلتُ في كلية الحقوق.. لا أستطيع شرح كم كان ذلك الأمر تحدّياً كبيراً بالنسبة لي، ولن أستطيع وصف الليالي التي قضّيتها في الدراسة والاهتمام بأطفالي وبأمورهم الشخصية وتدريسهم وتربيتهم، ولكنني استطعتُ و بالرغم من كل هذا التخرّج من الجامعة“.

ثم أجهشت بالبكاء قائلةً: “هنالك كمٌّ هائل من الذكريات السيئة ولا أعلم كيف أتخطّاها“.

عمّ الصمت مجدداً.. لتقطعه المحامية بسؤالها: من يريد التكلّم أيضاً؟

كنت هنا أنا نفسي قد بدأتُ بالبكاء بحرقة، عندما بدأت أفكّر أن الذكريات التي مررتُ بها صعبة ومؤلمة للغاية، ومن جهة أخرى أضع نفسي دائماً في حالة مقارنة مع من ظروفهنّ أقسى. بدأت سنوات الحرب واحدة تلو الأخرى تستحضر ذاتها في ذاكرتي من جديد، بعد ما عملت جاهدةً على نسيانها، فوجدت نفسي أبكي بشكلٍ هستيري. كنتُ أريد فقط الإفصاح عن كل تلك الذكريات السيئة، ومن الممكن أن الكلمات خانتني أو ربما أنا خنت كلماتي، فلم أستطع التفوّه بشيء، والتزمت الصمت كما التزمته طوال تلك السنوات الحقيرة. الأمور بنظري ليست كما يراها الجميع فهي أصعب من أن تُحكى، وكنتُ أقول في نفسي: “لا أريد التذكّر, لا أريد“.

قاطعت أفكاري فتاةٌ أخرى: “أريد التكلّم عن تجربتي المختلفة في الغربة عن الوطن – الذكريات- الأمكنة المفضلة- بيت العائلة- الأصدقاء- المعارف- عائلتي- تفاصيلي وأشيائي- غرفتي.. الكثير و الكثير من الأشياء التي اضطررت  إلى تركها والسفر إلى الدنمارك، لكي أستطيع النجاة بنفسي. ولا يسعكم أن تتخيّلوا ما أصعب على المرء ترك حياته بأكملها والبدء من جديد في مكان آخر، وتعلّم لغة جديدة، والاندماج بمجتمع جديد، والتأقلم على حياة مختلفة بالكامل”

قاطعت أفكاري تلك القصة التي سمعتها للتو لأقول في نفسي “السفر” إنه فعلٌ صعب المنال، وكم يوجد مثلي الكثير يتمنّين أن يخرجن من العلبة التي نسكن فيها. ولكن أيضاً فكرة السفر مخيفةٌ جداً الآن، فالعالم بالخارج مختلفٌ تماماً، ونحن نعلم ذلك -أقصد هنا خارج علبة الوطن- وهشاشتنا في الوقت الحاضر لا تعلم إن كانت تريد السفر أم تريد الأمان أم الطمأنينة.

المحزن في الموضوع أن تلك الحالات التي سمعنا عنها هي ليست إلا قلّة قليلة من القصص الباقية، وأنا شخصياً أعتبر تجربتي مع الحرب هي من أقسى التجارب التي مررت بها، شئتُ أم أبيتُ لقد تضرّرتُ بشكلٍ أو بآخر، خسرتُ أصدقاء لي خلال أيام المدرسة إن كان بالموت أو بالسفر، خسرتُ سنوات جميلة من حياتي كان من المفترض أن تكون بغير هذا الشكل، كبرتُ وأنا أعاني من اضطرابات واكتئاب منعاني من ممارسة حياتي بشكل طبيعي، هذا غير الرعب والخوف والقلق المستمر من الحاضر والمستقبل، من أصوات الطائرات، القذائف، التفجيرات، القنّاصون والأسلحة، من الخطف، القتل، التشرّد، الموت من الجوع والشتاء.

كنتُ في الخامسة عشر من عمري حينذاك، فأنا لا أذكر كثيراً شكل الحياة قبل الحرب، وكنتُ في عمرٍِ “حسّاس” وهي فترة المراهقة. وبهذا العمر يبدأ الانسان بإدراك الحياة أكثر، بتكوين شخصيته، ويتشكّل الوعي لديه، وجميع المحللين النفسيين والفلاسفة والأطباء أثبتوا وقالوا أنّ الاضطرابات والأمراض النفسية التي يعاني منها الانسان في حياته هي ناتجة عن فترة الطفولة والمراهقة، فلكم أن تتخيّلوا كيف حالي الآن..

وأذكرُ أنه في تلك الفترة كنتُ أقولُ دائماً في نفسي “إن نجوت اليوم من الموت فسأكافئ نفسي” أو “دعونا ننجو اليوم ومن ثم نلتفت إلى الأمور الأصغر في حياتنا“. وها قد نجونا من الحرب وأصبحت الأمور الأصغر في حياتنا صعبة المنال؛ وهي التي من المفترض أن تكون من الأشياء البديهية التي يملكها الإنسان في القرن الواحد والعشرون مثل الكهرباء والماء والغذاء كحدّ أدنى، ناهيكم عن مكملات الحياة الباقية. ومن المضحك أيضاً أن الحصول على كهرباء في وقتنا هذا وعلى ماءٍ دائم، وفي بعض الأحيان الدفء -تعتبر دولتنا أن هذه الميزات من الرفاهيات والكماليات- وهذا غير المشاكل الصحية التي أصبحنا نعاني منها أيضاً؛ إن كانت جسدية أو نفسية ظهرت مؤخراً خلال سنوات الحرب. وكلما أراد الانسان هنا التعبير عن رأيه والاستياء من هذا الوضع؛ يُقمع فوراً، فأصبح معتاداً على الصمت أكثر. لذلك لم أستغرب من صمت بعض الفتيات الموجودات معنا، رغم رغبتهنّ العارمة في التكلّم وإخراج كل شيء.

حتى إن نجونا من الحرب، فلم ننجو من أنفسنا.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

سوريات ينتصرن على ويلات الحرب

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015