رانيا الحلاق/ جيرون- فاجأني الشاب الوسيم بانضمامه إلى طاولتنا في المقهى، حيث كنت وصديقتي في فترة الغداء. لم أكن أعرفه عن قرب، هو مجرد زميل في العمل ألتقيه صدفة بين الحين والآخر، لكن صديقتي كانت على صلة أكبر، وهي قدمته لي: عصام شاب محترم وخدوم، وأضافت ضاحكة: ويبحث عن عروس. أحسست للحظة أنني تحولت إلى ما يشبه الخطابة الشامية، وأن هذه المصادفة قد تكون فرصةً لا تتكررلابنة خالي التي أعياها انتظار العريس المناسب حتى إنها قالت لي في آخر مرة التقيت بها: تنازلت عن شروطي.. سأرضى بعريس مقبول. وأنا وجدت الشاب مقبولًا بعد نصف ساعة من الحوار، تحدثنا فيه حول أفكاره عن الزوجة التي يريدها، وهي كانت أفكارًا تقليدية متوقعة: جميلة الوجه، نحيلة القد، رشيقة، رقيقة. بادرته: وماذا عن العلم والثقافة؟ قال: طبعًا أن تكون جامعية، ولا أشترط أن تعمل. كانت شروطه تناسب ابنة خالي، وهي إلى ذلك مثقفة متعمقة في مجالات الفلسفة وعلم النفس والأدب والفنون عمومًا؛ وهكذا رتبت لهما لقاءً في المقهى ذاته.
نقلت لي ابنة خالي، بعد اللقاء به، على الهاتف وبصوت منكسر، ما حدث، قالت: “ألم يسألك عن عمري؟” أجبتها: لا، لأن عمره أربعين وأنت في الخامسة والثلاثين، وهذا مناسب لكليكما، لماذا تسألين؟ قالت: بعدما حكينا طويلًا، وأحسست أنه شخص مناسب، وهو بدا لي هائمًا بشكلي وثقافتي، سألني: كم عمرك؟ وحين أجبته امتقع وجهه واعتذر مني قائلًا: ظننتك في الخامسة والعشرين. ثم تركني وغادر بكل صفاقة. كانت صدمة ابنة خالي قوية زعزعت ثقتها بنفسها، وشعرت بأن قطار الزواج فاتها إلى الأبد. بل إنها قالت لي قبل أن تسافر إلى فنلندا: لم أعد أحتمل عقول الشباب العرب.. سأعيش مع أختي في فنلندا، وأقطع علاقتي بالعرب.
كانت مصدومة بطريقة تفكيره، وهي ابنة عائلة مثقفة واعية، تؤمن بالمساواة بين الجنسين وبأن الوعي هو الميزان الذي يميز بين الناس، وليس العمر والشكل والجنسية. بعد نحو ثلاثة أشهر هتفت لي فرِحة: وأخيرًا وجدته. كان شابًا فنلنديًا أصغر منها بعامين، يحمل شهادة الدكتوراه في علم الأحياء، ويعمل أستاذًا مساعدًا في الجامعة، قالت: إنه ذكي وسيم أحبني بجنون. أرسلت لي صور زفافها وقد بدت فيها فراشة بيضاء جميلة سعيدة، وكذلك عريسها الذي ظهر في الصور يحتضنها بحب ولهفة. وأنا تقصدت عرض الصور على الشاب العربي، وعلقت وهو يطالعها ويستشعر الغيرة، وربما الندم: هل تعلم أنه يصغرها بعامين؟ قال وهو يداري خجله: الله يهنيها، واستدار ومضى في طريقه.
يبدو أن هيمنة الأفكار القديمة على بعض شباب هذا العصر ما تزال تعوق وعيهم عن فهم معنى وأساس تشكيل الأسرة الناجحة السعيدة. هو ما يزال يفكر بطريقة التاجر الذي يختار البضاعة الأكثر رواجًا في السوق، بالرغم من تجارب أهله وأقاربه الفاشلة. هو تجاوز المسألة الأهم في اختيار شريكة حياته، وهي التفاهم والتناغم بين شخصين في نمط تفكيرهما وطموحاتهما المشتركة للمستقبل. هو يريدها -كما فعل أبوه وفعل أعمامه وأخواله من قبلُ- صغيرة وجميلة وجامعية وابنة عائلة ثرية. لا أحد من أولئك نجح في بناء أسرة متماسكة، بل إن معظمهم انفصلوا بالطلاق، بعد خلافات طاحنة، أو أنهم استمروا في العيش معًا دون رابط روحي أو جسدي، خوفًا من المجتمع وحرصًا على التقاليد. ما تزال القناعة بأن الزواج من صغيرة تتيح للرجل أن يطوع زوجته لمزاجه؛ ما يعني أن تكون خادمة جميلة ليس أكثر. بعضهم يذهب الى أبعد من ذلك فيحوّل امرأته إلى نسخة “أنثوية” عنه، تحب ما يحب، وتكره ما يكره، ويصبح الرجل بالنسبة إليها الزوج والأب الذي يحدد لها سلوكها ومسار حياتها.
خضوع المرأة الكامل هو ما يرضي معظم طالبي الزواج العرب. الرجل العربي -عمومًا- يتجنب الارتباط بامرأة من عمره، لأنه لا يستطيع التحكم بها كليًا، وفي حال أراد القيام بذلك، فإنه يتوقع حياة حافلة بالمشكلات. الشاب الغربي عامةً يبحث عن زوجة تشاركه مسؤوليات الحياة وصعوباتها، هو يبحث فيها عن صديقة وحبيبة تناسب تفكيره وتطلعاته. ويدهشنا نحن -العرب الذين نعيش في الغرب- أن نرى شابًا وسيمًا مرتبطًا بفتاة أقل منه وسامة. في نهاية المطاف، فإن العلاقة القوية الصحيحة بين الزوجين هي تلك التي تقوم على المساواة بين الطرفين، ما يعني الاحترام المتبادل والثقة والحب، وأن الفارق المحدود في السن لا يجب أن يكون عائقًا أمام المقومات الأهم لبناء الأسرة السعيدة.