ياسمين رزق/ساسة بوست- يتكرر المشهد السوري كل يوم تقريبًا منذ ما يزيد على 6 سنوات بين أم ثكلى فُجعت بأبنائها جميعًا جراء قصف غادر، وأب يجمع أشلاء آخر فرد من أسرته ليواريها الثرى قبل أن يستفيق من صدمته ويفقد عقله، وطفل خرج من تحت الأنقاض تغطيه دماء أشقائه التي أعطبت رائحتها بداخله ما لا يمكن إصلاحه بمعونة إغاثية، أو قرار سياسي، أو حتى مفاوضات تقسيم، أو سلام كما تُفضل وسائل الإعلام أن تُطلق عليها، لتتبع غالبية تلك المشاهد بعد ذلك انتفاضة حزن وتعاطف يقودها الآلاف من البشر عبر الإنترنت فقط، كأكثر الأساليب سهولة وأمنًا لأولئك الذين أدمت قلوبهم صرخات الاستغاثة ولا حيلة لهم، أو جرأة سوى المواساة بمساعدة، أو دعاء، وأحيانًا سب ولعن للحرب والقائمين عليها، لعنة وإن أصابت لن تُمحي آثار الحرب الجسيمة من النفوس على المدى القريب.
تلك الانتفاضة وموجات الحزن جعلت من الجميع على اعتقاد راسخ؛ بل ويقين بأنه لا يوجد (إنسان) على وجه الأرض يمكنه أن يقف صامتًا أمام تلك المشاهد دون تعاطف، أو تأثر كحد أدنى، ولكن جرت العادة التي يحكمها المنطق أن تنتفي الاعتقادات وتتلاشى بظهور الحقائق، فقد أثبتت أوضاع اللاجئين في دول الجوار لمن يخوض سبر أغوارها أن كل ما يُكتب عبر الإنترنت لا يُعبر عن الواقع بالضرورة، وأن تلك الشعارات التي يكسوها الحزن لا يُعبر الكثير منها إلا عن رياء أصحابها، فحين كان يحتشد المتعاطفون عبر الإنترنت كان معدومو الضمير أيضًا يحتشدون في الواقع، أولئك الذين غضوا نظرهم ومشاعرهم وضمائرهم عن مشاهد الألم والأهوال التي عانى منها السوريون، والتفتوا فقط إلى البحث عن آليات لسلبهم ما تبقى من أموالهم، واستخلاص أكبر قدر من الفائدة والكسب السريع الذي يمكن أن يعود عليهم من خلال استغلال معاناتهم بشتى الطرق؛ لذلك يُعد واهمًا من يظن أن معاناة السوريين قد انتهت بخروجهم أحياء من بلادهم، فقد بدأت منذ تلك اللحظة معاناتهم كلاجئين، تلك التي لا تقل في بشاعة فصولها عن الأولى.
لم ينحصر استغلال الأزمة السورية على السياسيين وتجار السلاح فقط وكل من له مبتغى من إطالة أمد الحرب كما يتراءى للبعض؛ بل شكل الاستغلاليون والمحتالون وكل ذي مصلحة سلسلة أحاطت بكل مكان يتواجد به اللاجئون، حتى بات الاستغلال رفيق حياتهم الدائم أينما ولوا وجوههم، وبالتالي لا يتوقف استغلال اللاجئين عند دولة بعينها من دول اللجوء، إذ كان لهم في كل دولة نصيب من الاستغلال والإذلال وامتهان الكرامة، بدءًا من أوروبا، وانتهاء بدول الجوار، فقد كشف تقرير وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول) في 2016 عن اختفاء 10 آلاف طفل خلال عامين من اللاجئين الذين هاجروا دون ذويهم إلى أوروبا، والذين يتم استغلال أمثالهم في شبكات الدعارة، والعمالة دون مقابل، وحتى الاتجار بالأعضاء، وهي الشبكات التي تستهدف النساء والرجال أيضًا، إضافة إلى عصابات المخدرات، والاتجار بالبشر التي خطفت أعدادًا لا حصر لها في بلغاريا، وتنشط بشكل كبير أيضًا في مخيمات اللاجئين في اليونان التي تُعد من أكبر الحاضنين لهم بعد أن أغلق الاتحاد الأوروبي حدوده، ومن لم يتعرض من اللاجئين إلى هذا النوع من الاستغلال، فقد تعرض لغيره لا محالة من استغلال أصحاب المحلات التجارية التي تبيع الخيام، والمواد الغذائية بأضعاف ثمنها، أو سماسرة الأزمة كما يُطلق عليهم، والذين يشترون بطاقات القطار بأكملها لمدة يومين، أو ثلاثة أيام ليبيعوها لهم لاحقًا بأضعاف سعرها الحقيقي، بالإضافة إلى اضطرار البعض في اليونان دفع عدة يوروات فقط لاستخدام الحمام، أو شحن الهاتف المحمول بالكهرباء، ومع ذلك تعتبر دول أوروبا أن ذلك الاستغلال (الذي لا تحاول منعه) عملية تُصاحب أي أزمة، وبالتالي أزمة السوريين لا تُعد استثناء من القاعدة لكي يتم اتخاذ إجراء مختلف تجاهها.
وفي حين يعزو البعض الاستغلال الأوروبي إلى عدم وجود اعتبارات مشتركة قومية كانت ،أو ثقافية، وأحيانًا دينية بين الشعوب الأوروبية، واللاجئين بما يدعم مشاعر التعاطف معهم، إلا أن النتائج لم تكن أكثر اختلافًا في دول الجوار التي توفرت فيها تلك الاعتبارات والشروط كافة، يضاف إليها الأواصر التاريخية والقرب الجغرافي، وتقارب العادات والتقاليد بينهم، إذ إن كل تلك العوامل مجتمعة لم تقف حائلاً بين اللاجئين ومستغليهم، أو تشفع لرحمة ضعفائهم؛ بل كانت القوانين التي سنتها حكومات بعض دول اللجوء ظالمة لهم أكثر من كونها منصفة، منها قانون الكفيل في لبنان، والذي كان الذريعة لعدد كبير من الناس لاستغلال وإذلال اللاجئين تحت غطاء قانوني، فقد فرضت الحكومة اللبنانية على كل سوري يرغب باللجوء إليها من غير المسجلين بالأمم المتحدة أن يكفله مواطن لبناني طوال فترة بقائه في البلاد، وفي حال تعذر وجود من يكفله لا يُسمح له بالدخول، وبالتالي هو الأمر الذي جعل من الكفيل والكفالة تجارة رائجة، حيث يتجه هؤلاء التجار إلى الحدود في انتظار قدوم اللاجئين الفارين من القصف والموت لابتزازهم، والذين عليهم القبول والخضوع لشروط الكفيل، وأسعاره التي تصل أحيانًا إلى ألف دولار عن كل فرد، أو العودة أدراجهم، بالإضافة إلى ذلك يشترط بعض الكفلاء قبل عبور الحدود أن يتقاضى مبلغًا شهريًّا لقاء الاستمرار بالكفالة، وهناك من يفاجئهم بذلك الطلب بعد فترة من إقامتهم ليصبح أمرًا واقعًا إما الدفع، وإما الترحيل إلى سوريا مرة أخرى، أو بمعنى أكثر دقة الدفع أو الموت.
ويعد وضع اللاجئين في لبنان التي تضم 1.7 مليون لاجئ حسب إحصائيات 2015 من أسوأ وأقسى الأوضاع بين دول اللجوء الأخرى، حيث يعيش الأغلبية تحت خط الفقر، فقد رفضت الدولة تحمل تكاليف إنشاء مخيمات رسمية لهم، وتركتهم ليسكنوا أينما تيسر لهم في العراء، وفي خيام صنعوها من بقايا أقمشة لا تقي من صيف أو شتاء، أو حتى تطفل عابر سبيل، بالإضافة إلى انعدام الأمن ومصادر المساعدات الدائمة لأكثر من 900 ألف لاجئ، بعد أن قرر برنامج الأغذية العالمي تقليص مساعداته، وبالتالي ونتاجًا لذلك، ولتخاذل الحكومة اللبنانية تهيأت كافة الظروف التي جعلت من حياة اللاجئين بيئة خصبة للاستغلال، وهو ما يمكن قراءته كمحاولة من الدولة للحد من تدفقهم في تغليب واضح للموقف السياسي على الاعتبارات الإنسانية لذلك من غير المستغرب أيضًا أن ينال الأطفال نصيبًا من ذلك الوضع السيئ الذي يقتل الطفولة في مهدها بين التسول والاستعباد في العمل، فبحسب تقرير اليونيسيف لعام 2015 أن الآلاف من عمال المزارع في البقاع هم من الأطفال السوريين الذين يعملون لساعات طويلة لا تناسب أعمارهم التي لم تتجاوز الثامنة، وبأجر يقل عن 4 دولارات في اليوم، وغالبًا ما يتعرضون إلى الإهانة والضرب والتحرش الجنسي في صمت تام، لعدم وجود قانون ينصفهم بقدر ما توجد الكثير من القوانين التي تُعيقهم عن التبليغ، وتهدر حقوقهم الآدمية.
وتعتبر عمالة الأطفال اللاجئين واستغلالهم أمرًا متداولًا بين دول اللجوء، حتى بات الأمر لا يلقى استهجانًا من أحد سوى المنظمات الحقوقية الدولية التي تصب أيضًا جل تركيزها على الإحصاء، وإبراز تلك المشاهد للعالم دون حلول على أرض الواقع، إذ تشير التقديرات إلى انخراط أكثر من 400 ألف طفل سوري في العمل بقطاع الملابس بأجور زهيدة في تركيا، بخلاف القطاعات الأخرى، وهو ما يتم بعيدًا عن أعين الشرطة، ويضطر الأطفال بقبوله لتوفير قوت يومهم بعد أن أنساهم الجوع رغبتهم في اللعب، والدراسة، والتعليم، وحياة الأطفال الطبيعية برمتها، وارتسمت على وجوههم ملامح الشيخوخة المبكرة.
وبالتأكيد لم يتوقف الاستغلال على الأطفال فقط، فضحايا الحروب ضعفاء أيًّا كانت أعمارهم، وبالتحديد عندما يجتمع الفقر والجوع وضياع المستقبل والشتات خارج الوطن، لتُشكل جميعها عوامل ومؤثرات لن يكون لفرد تحت رحمتها العديد من الاختيارات، وهو ما استغله أرباب العمل على الوجه الأمثل في كل الدول، وبرروه بالكثير من المبررات الواهية ليدرؤوا عن أنفسهم شبهة الظلم، وانعدام الضمير، فنجد في تركيا أن العدد الأكبر من اللاجئين البالغ عددهم 2 مليون و407 آلاف يعمل فيما يسمى بالاقتصاد غير الرسمي، أي دون تصريح عمل، إذ لا يتمكن الكثيرون من استخراجه، كما تقتصر تصاريح العمل التركية للاجئين على عدة مهن فقط يُعد العمل خارجها غير قانوني، بالإضافة إلى الآلاف الذين يعملون خارج المخيمات في السر، حيث يُمنع على من دخل تركيا دون جواز سفر أن يعمل خارج المخيم حماية للدولة من تسلل الإرهابيون بينهم، وبالتالي لم تكن مثل تلك الظروف لتصب في صالح أحد سوى أرباب العمل الجشعين الذين زادت قوتهم في الظلم، وسلطتهم في الأمر والنهي، والتحكم بمصائر من لا حيلة لهم، إذ يضطر غالبية اللاجئين إلى الرضوخ والعمل بأجور أقل من الحد الأدنى المسموح في الدولة، ولساعات عمل تصل إلى 14 ساعة يوميًّا، مقترنة بالإهانة والتوبيخ ومن يتبرم من نظام العمل، أو يعترض ليس أسهل من الطرد حلًّا، وبالتأكيد دون الحصول على مستحقاته التي لا يمكنه الإبلاغ عنها، وإلا تعرض للمساءلة القانونية.
بالإضافة إلى اضطرار آخرين إلى العمل عدة أشهر دون تقاضي أجورهم، وذلك تحت التهديد بالشرطة، ولا خيار لهم أيضًا سوى الانتظار، وتقاضي بعض المال في النهاية، بدلاً من البقاء دون عمل، ودون أي أموال نهائيًّا، وهو حال الكثيرين ممن يعملون بالزراعة، المجال الذي لا تشمله تصاريح العمل، ورغم ذلك تعتمد مدينة أضنة التركية على القوى العاملة السورية بنسبة 85%، حيث يعمل هناك أكثر من 150 ألف ضمن ساعات عمل تتجاوز 11 ساعة مقابل 11 دولارًا، وأحيانًا أقل، وهو ثلثا ما يجنيه الأتراك في نفس المجال، ويعيش غالبيتهم خلال فترة انقطاع الأجور، اعتمادًا على بطاقات الغذاء التي توفرها الحكومة التركية لهم شهريًّا، في حين يعتبر وضع العاملين في المدن الداخلية هو الأسوأ، إذ لا تصلهم المساعدات أو بطاقات الغذاء التي تتركز على المدن الحدودية، وبالتالي يعيشون على الكفاف.
ولا تختلف الأوضاع كثيرًا في الأردن التي حصرت عمل اللاجئين في عدة مهن، منها أعمال النظافة، والمطاعم، والسوبر ماركت، وحظرتها في أخرى كالتمريض، والمحاماة، والهندسة، والقطاع الطبي، وتضم الأردن ثاني أكبر نسبة للاجئين في العالم مقارنة بعدد المواطنين، إذ وصل عدد اللاجئين إلى أكثر من 634 ألفًا، ويفرض أصحاب العمل هناك ذات الشروط تقريبًا، ولكن بأجور أقل من 200 دينار شهريًّا، ولا أمل في الزيادة، مما يحمل الكثير من الأسر إلى التقشف التام مثل السير على الأقدام أغلب الأحيان توفيرًا لدينارات المواصلات، واكتفاء الآباء والأمهات بوجبة غذائية واحدة في اليوم لتوفير الأخرى إلى أبنائهم، وخاصة مع الازدياد المستمر في عبء تجديد الإقامة، وإيجار المنزل الذي وبفضل جشع واستغلال وأصحاب العقارات زاد 6 أضعاف؛ مما أثر في الفقراء من السوريين والأردنيين على حد سواء.
ولا شك أن طول الأزمة، والذي لم يكن بحسبان الدول المستضيفة، أو حتى اللاجئين أنفسهم كان له آثاره السلبية في اللاجئين، والتي بدأت في الظهور على السطح مع مرور السنوات، وضعف الاقتصاد الأردني؛ إذ باتت العديد من فئات الشعب الأردني ترى في استضافة اللاجئين التي طال أمدها عبء على موارد الدولة المستنفدة، من حيث تحمل البنية التحتية فوق طاقتها، وإرهاق الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم ومرافق على الرغم من وجود جذور لتلك المشكلات منذ عهد طويل ساهمت أزمة اللاجئين فقط في بروزها على السطح، وليس اختلاقها، كما أن 96% من الأردنيين، وخاصة الطبقة الكادحة باتوا يعتقدون أن السوريين يستولون على وظائفهم، وخاصة بعد ازدياد البطالة من 14.5% في 2011 إلى 22 في 2014، على الرغم أيضًا من تأكيد البيانات الوطنية على أن انخفاض العمالة الأردنية من 2010- 2013، كان في قطاعات لم توظف الكثير من اللاجئين، وذلك بحسب دراسة نشرتها منظمة العمل الدولية، وهي الأمور كافة التي حملت الكثيرين من الأردنيين على اعتبارهم منافسين يشكلون خطرًا على مصادر دخلهم، لتقل بذلك مشاعر التعاطف تجاههم بالتدريج، وتنحصر على من هم بالداخل السوري فقط.
أما الاستغلال الأسوأ بين كل تلك النماذج، والذي يندى له الجبين مقارنة بشعارات العروبة والإسلام والشرف التي يتغنى بها الجميع في كل محفل، وعبر كل منصة، كان استغلال النساء والفتيات الذي عادة ما يظل طي الكتمان، والذي بدأ أيضًا منذ أول نزوح للاجئين، وازداد مع تدهور الأوضاع، وطول الأزمة؛ إذ ينظر الكثيرون من عديمي الضمير والوجدان في الدول المستضيفة إلى اللاجئات باعتبارهم ضعفاء لا حماية لهم، وبضاعة رخيصة يمكن شراؤها بالمال، إذ بات تعرضهن إلى الابتزاز والمساومة على الشرف من الأمور الطبيعية والروتينية في حياتهن، والذي عادة ما يكون في مقابل إما دفع إيجار المنزل المتأخر سداده، وإما تجديد الإقامة غير السارية، وإما حتى مقابل توفير الطعام والشراب للمرأة المبتزة وأبنائها، بالإضافة إلى الشكوى الدائمة لكل اللاجئات من تعرضهن للتحرش والمضايقات في أي مكان يتواجدن فيه من أرباب العمل، أو أصحاب العقارات، وأحيانًا من أفراد الشرطة المعنيين في الأساس بحمايتهن، وحماية كل ضعيف لا استغلاله (لكنه الأمر المعتاد في الدول العربية إذ لا عهد لمن يملك سلطة)، وتبلغ تلك الأوضاع ذروتها في لبنان التي يشكل النساء والأطفال 80% من أعداد اللاجئين فيها، غالبيتهم دون أوراق قانونية، أو إقامات سارية، وهو الأمر الذي يجعل بينهن، وبين الشرطة والقانون سدًّا خشية الترحيل، وبالتالي يكون الصمت هو النتيجة المعتادة على تلك الإهانات والجرائم التي تزداد يوميًّا في الخفاء.
وكان المثال الأبرز على الحد الذي قد تصل إليه بشاعة الاستغلال هو قضية مارس 2016، التي زلزلت لبنان بعد أن نجحت الشرطة اللبنانية في كشف شبكة للاتجار بالنساء، يديرها لبناني بالتعاون مع جهات نافذة لتسيير عمله، وتمكنت من تحرير 75 فتاة غالبيتهم من السوريات الذين تم استدراجهم من سوريا، ومن المخيمات، بوظائف وهمية في مطاعم أو مقاهٍ استغلالًا لحاجتهم للمال، ليتم بعد ذلك احتجاز أي فتاة تصل إلى المكان قاصدة الوظيفة، وإرغامها على العمل بالدعارة والملاهي الليلية التابعة للشبكة تحت حراسة مستمرة حتى لا تحاول أي منهن الهرب، كما يقوم المشغلون بتأجير هؤلاء الفتيات أو بيعهم لشبكات أخرى، وفي حال اعترضت إحداهن أو قل مدخولها من المال تتعرض للجلد، والتعذيب، والتشويه الجسدي والنفسي، ولم تكن تلك الشبكة هي الأولى من نوعها، وإنما الأكبر بين شبكات تعتمد في أغلبها على 5 أو 10 فتيات على الأكثر من السوريات، وأحيانًا القاصرات منهن، والتي تستغلهن تحت التهديد والضرب كتلك التي كشفتها الشرطة في وادي زينة في جبل لبنان، وأخرى في كفر عبيدا في الشمال.
وهو الأمر الذي بات يشكل هاجسًا لجميع الأسر اللاجئة، إذ لا مأمن على الفتيات في الداخل تحت سطوة الإرهاب أو الخارج تحت أعين المتربصين لاستغلالهم، وبالتالي هو ما أفضى إلى انتشار زواج القاصرات السوريات في دول اللجوء، أو ما يمكن تسميته (بيع تحت غطاء شرعي)، حيث يرى الأهل في الزواج حماية لابنتهم من التحرش، أو الاغتصاب الذي تتعرض له الفتيات داخل المخيمات حتى من عمال الإغاثة أنفسهم أو خارجه، فقد اضطرت الكثير من الأمهات ممن لا عائل لهن (أو بالمفهوم العربي ممن لا أب أو أخ لهم ليحميهم من طمع أشباه الرجال في شرفهن وأجسادهن) أن يزوجن بناتهن القاصرات لعدم قدرتهن على توفير الحماية لهن،بالإضافة إلى آخرين يطمحون من خلال ذلك النوع من الزواج إلى تأمين حياة أفضل لبناتهم خارج المخيمات بعيدًا عن الذل والجوع، في حين لا يرى بعض الأهالي سوى المال الذي سيتقاضونه من الزوج كمهر لها.
وغالبًا ما يكون زواج القاصرات من رجال مسنين طاعنين بالعمر بحاجة لمن تقوم على رعايتهم وتخدمهم، أو خليجي يبحث عن زوجة ثانية، أو ثالثة، وأحيانًا لفترة مؤقتة، وآخرون من الدول المستضيفة لا يملكون المال، ويرغبون بالزواج بمبالغ زهيدة دون شروط ومعوقات مالية، وبالتالي لا يعني اندراج ذلك الزواج تحت غطاء شرعي انتفاء صفة الاستغلال عنه، في حين يدّعي البعض رغبتهم في ستر الفتاة السورية الجميلة وحمايتها لم تكن تلك الأسباب والرغبة في عمل الخير متاحة بنفس القدر والحماس مع اللاجئات الصوماليات، أو النازحات من بورما، فأين تلك الإنسانية منهن؟ لذلك ورغم اختلاف نماذج الأزواج تلك، إلا أنهم اشتركوا في صفة استغلال حاجة الأهل، وفقرهم، وسوء أوضاعهم التي لا تؤهلهم لوضع شروط للمهر، أو أي متطلبات أخرى غير الستر، كما اشتركوا في النظرة الاستعبادية والدونية، إذ يسعى كل منهم لفرصة أن يحظى بفتاة جميلة، وضعيفة، وصغيرة، وفقيرة لا حيلة لها أو رأي، لتُطيع أوامره دون اعتراض، فهو الذي انتشلها من الضياع والفقر، وعليها انتظار ما يجود ويمن به، وإن طالبت بأي حق لها يهدد بإلقائها في الشارع ليعيد الكرة من جديد مع أخرى حتى يجد ضالته.
فلا تتعدى تكاليف الزواج من قاصر في مخيم الزعتري بالأردن (بما يتضمن مبلغ سمسار الزواج أو الوسيط) 200 دينار بحسب جريدة الدستور الأردنية، أو عدة آلاف من الدولارات في تركيا ولبنان، ويزداد المبلغ قليلًا إن كان الزوج خليجيًّا مع أن النسبة الأكبر من زواج الخليجيين من القاصرات تنتهي بعد عدة أشهر، وأحيانًا أسابيع، إذ يختفي الزوج بعد ذلك مستغلًا عدم وجود سند قانوني، إذ تمنع قوانين أغلب الدول الزواج تحت سن 16 أو 18 عامًا، وبالتالي لا يلجأ الزوج أو الأهل إلى التوثيق بالمحكمة الشرعية؛ مما يُفقد الفتاة أي حقوق لها أثناء الزواج أو الطلاق، وتبلغ نسبة ذلك الزواج رغم كل تلك المساوئ والمخاطر 32% في لبنان من إجمالي زواج اللاجئات، وفي الأردن 35% لعام 2015 ينتهي 50% منها بالطلاق.
وتعد نماذج الاستغلال تلك، والتي تحمل في طياتها ما هو أسوأ وأقسى من أن يُذكر هي الحياة اليومية لملايين البشر من سوريا والعراق وليبيا واليمن والشعب الفلسطيني عبر سنوات مضت تحت مسمى لاجئين، ذلك المسمى الذي فضح سادية النظم الحاكمة، وأطماع السياسيين، ووهن الشعارات القومية التي تصدح في عالمنا، وتسقط عند أول اختبار حقيقي لها، بالإضافة إلى استغلال الدول للعمل الإنساني تجاه اللاجئين لتحقيق مآرب أخرى، ولنا في تركيا والدول الأوروبية مثالًا، ذلك المسمى الذي أسقط أقنعة الشرف والنزاهة التي يرتديها الكثيرون، ما أن تتاح لهم الفرص لإخراج أسوأ ما بداخلهم دون حساب أو عقاب، ولعل أسوأ ما أبرزه أيضًا كان نتاج الاضطهاد السلطوي الذي تشبعت به الكثير من الشعوب لسنوات، حتى بات كل من يتاح له قوة ونفوذ يمارسها بأسوأ صورها على من هو أضعف منه، ويستغله للظلم والتجبر الذي عانى منه مسبقًا أسوة في ذلك بأصحاب السلطة والنفوذ الذي اعتاد أن يخضع لهم في بلاده.