جريدة السفير- إنّ تقييم وضع المرأة وتحديد أدوارها ووظائفها في المجتمع، محكومان بفكرتين أساسيتين:
الأولى تذهب إلى أن مكانتها هي وليدة الأعراف والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع.
أما الثانية فتذهب الى أن وضعها في المجتمع، هو أمر فرضته القوانين الطبيعية الثابتة والمنظّمة للكون.
فما هي أبرز الأسس والنظريات الفلسفية التي زوّدت الفكر الإنساني بالمبررات اللازمة لتكريس الوضع المتدنّي للمرأة في المجتمعات البشرية؟ وكيف تعاطت الفلسفة اليونانية مع حقوق المرأة ودورها ووظيفتها وعلاقتها بالرجل؟
تظهر المرأة اليونانية في العصر الكلاسيكي في صورتين متباينتين، المرأة في أثينا، والمرأة في أسبرطة:
1ـ في أثينا عاصمة الثقافة والفلسفة والحكمة والفنون، كان هناك نموذجان من النساء:
أ ـ النموذج الأول هو المرأة الأثنية التي تحمل لقب «الحرّة»، وهي سجينة بيتها، غائبة عن الحياة العامة، تكتفي بإدارة المنزل وتربية أولادها، خاضعة لسلطة الرجل: الأب أو الزوج أو الجدّ، ولا تحظى بأي تعليم. والأب هو من يختار لها الزوج الصالح. وإذا مات زوجها، تعود إلى كفالة والدها. أهمّ وظائفها أن تكون أداةً لإنجاب الأبناء الشرعيين للذكور لحفظ نسلهم.
ب ـ النموذج الثاني هو المرأة الأجنبية التي، وإن كانت محرومةً من الحقوق المدنية، إلا أنها كانت حرّة طليقة وغنيّة لأنها تمارس الأعمال الحرة، ومثقّفة وتملك صالوناً أدبياً.
2ـ أما في « أسبرطة» عاصمة الفروسية والجندية والفنون القتالية، لما يقرب من ثلاثة قرون، فقد نالت المرأة الكثير من حقوقها، وانتفت التمايزات بينها وبين الرجل، وتحققت المساواة بينهما على أفضل شكل. كانت الملكية جماعية، والتربية جماعية، والزواج جماعي، والقيم القتالية هي العمود الفقري لهذه الدولة التي هي في استنفار عسكري دائم، والوطنية هي الفضيلة الأولى فيها. وكل هذه الظروف أتاحت للمرأة نيلها حقوقها وتمتّعها بحريتها، وأن تصبح امراة مقاتلة تحمل السلاح وتخضع للتمارين الرياضية كالرجال.
وإليكم المفارقة التالية: في إسبرطة حيث القيمة الأولى هي لقوة الجسم، تمتعت المرأة بكامل حقوقها وحريتها ومساواتها بالرجل، برغم أن المدينة عجزت عن إنجاب فيلسوف واحد. أما في أثينا التي كانت مصنعاً لإنتاج الفلاسفة، وحيث القيمة الاولى هي لقوة العقل، فقد كانت المرأة محتقرةً، ومسجونةً ببيتها، وخاضعة لسلطة الرجل!
في الفلسفة اليونانية
لم يكن أفلاطون يسعى إلى تحرير المرأة، بل إلى إقامة دولة مثالية تتحقق فيها العدالة والمساواة والسعادة والحكمة. ولذلك فقد اعتبر أنه من الضروري لتحقيق هذا الهدف السامي، الاستفادة من قدرات المرأة باعتبارها مواطنةً كاملة الحقوق كالرجل. ولأنه كان يكره الجسد، فقد أراد الارتفاع بالمرأة والرجل معاً فوق شهوات الجسد وغرائزه، ليتفرغا لأعمال العقل والفلسفة والحكمة وخدمة الدولة.
فالذكور والإناث في جمهورية أفلاطون يخضعون للمناهج التربوية نفسها في المدارس، وللتدريبات الرياضية ذاتها. والمرأة تقوم بالمهام التي يقوم بها الرجل بلا قيود، حتى لو كانت أضعف منه جسدياً. وخصوصيتها الوحيدة التي تميّزها عن الرجل، هي أنها تنجب أطفالاً للدولة.
لكن أفلاطون لم يستطع تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وتجاهل الاختلافات النفسية والجسدية بينهما، إلا عبر اتخاذ بعض الخطوات التي استلهمها من النظام الأسبرطي: فقد حرّم الملكية الخاصة عند الحكام والجند (الحُراس)، وأباح شيوعية النساء والأطفال، ما يعني إلغاء نظام الزواج والأسرة عند الحراس، فلا أبوّة ولا أُمومة، ﻷن الدولة هي التي ترعى الأطفال، وكل البنات والصبيان إخوة وأخوات، والدولة هي الأسرة الوحيدة لكل المواطنين.
وهذا يعني أنه استحال على أفلاطون تحقيق النظام والعدالة والمساواة بين الرجل والمرأة في الجمهورية، إلا بتحويل المرأة الى رجل، والقضاء على كل الرغبات بالتملك والزواج وبناء الأسرة. ولذلك، فعندما اكتشف أفلاطون أن مدينته الفاضلة غير قابلة للتحقق إلا في عالم الآلهة، وضع كتابه «القوانين»، حيث أعاد الحقّ في التملك وتكوين الأسرة عبر نظام الزواج التقليدي، فعادت المرأة الى مزاولة وظائفها التقليدية، ورجعت لتصبح ملكيةً خاصةً للرجل الوصي.
الخلاصة: عندما تكون الأُسرة اللبنة الأساسية في تشكيل الحياة الاجتماعية، فإن العبء البيولوجي المرتبط بالإنجاب والأُمومة وتربية الأطفال، يعيق المرأة ويقيّد حريتها ويجعلها غير قادرة على التفرغ لتولّي مناصب الدولة الأساسية. وعندما تكون الملكية الخاصة مقدّسةً في المجتمع الإنساني، فهذا يعني أن المرأة ستظلّ ملكيةً خاصةً بالرجل.
أما أرسطو فقد قدّم نظريةً فلسفية في غاية الخطورة، اعتبر فيها ان الفروق بين المرأة والرجل، من حيث القوة والضعف، الرفعة والدونية، هي فروق طبيعية ضرورية، وليست فروقاً اجتماعية أو ثقافية. وقد انطلق في تبريره فلسفياً لهذا الرأي من فكرةٍ ميتافيزيقية مفادها أن هناك هيراركيةً كونيّةً ضرورية (أي تسلسل هرمي) هدفها تحقيق الأهداف والغايات الخاصة بالحياة الإنسانية، نتج منها حُكماً، هيراركية اجتماعية وسياسية وأخلاقية. فالطبيعة هي التي أقامت تفاوتاً بين كل الموجودات: بين الأعلى والأدنى، الإنسان والحيوان والنبات، الذكر والأنثى، العقل والشهوة، الحاكم والمحكوم، السيد والعبد، اليوناني والبربري. والعقل والأعلى يمثّلهما الرجل، والمادة والأدنى تمثّلهما المرأة.
والخلاصة: إنّ اللامساواة بين الأعلى والأدنى، الذكر والأنثى، هي مبدأ طبيعي وليست من اختراع البشر، أو ذات منشأ اجتماعي أو ثقافي كالعادات والتقاليد، بل هي ضرورة سياسية واجتماعية لتحقيق خير الإنسانية والدولة.
وقد تبنّى القديس توما الأكويني في القرن الرابع عشر نظرية أرسطو بتمامها، وقام بتوظيفها لاهوتياً بتكريس دونية المرأة، فاعتبر أن فضيلة المرأة هي انها مجرد وعاءٍ للتناسل، لأن الرجل ينجب، والمرأة تحمل، هو الفاعل وهي المنفعلة. المرأة بالنسبة إليه موجود ناقص، ومنقاد للعاطفة والهوى.
الحركة النسوية
في القرن العشرين، بدأت حركةٌ نسوية انتفضت على وضع المرأة المهين والمتدنّي في المجتمع البشري. وكانت الفيلسوفة الوجودية الفرنسية سيمون دو بوفوار، على رأس هذه الحركة. وقد رأت أن أفكار أرسطو عن المرأة، إضافةً الى مجموع الموروثات الثقافية التي شكّلت مفهوم «الأنثى» في العقل الأوروبي الكلاسيكي، بما فيها نظرة الكتاب المقدس للمرأة، والتي كرّست التفوّق الذكوري ودونية المرأة، هي أعظم الهزائم التي مُنيت بها المرأة على مدى التاريخ.
وقد أشارت الى مرحلة «عصر الأمومة» التي استمرت من ثلاثين إلى خمسين ألف سنة، حيث كانت الألوهة تُعزى الى الأنثى، لأنها هي التي تهب الحياة بحملها وولادتها. وكان الأولاد يُنسبون الى أمهاتهم لا آبائهم، إلى أن أصبح الإله «ذكراً» في الديانة اليهودية، وخُلقت المرأة من ضلع معوجّ من الرجل، وأصبح الحمل والولادة عقاباً لها. وهكذا رُفعت مرتبة الرجل، وتدنّت مرتبة المرأة ومكانتها في المجتمع.
وقد ناقشت سيمون في كتابها «الجنس الآخر» الذي صدر في العام 1949، أوضاع المرأة التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية في العصر الحديث، وقامت بالربط بين وضعية المرأة في القرن العشرين، والنماذج التحقيرية الدينية والفلسفية التي حوّلت الرجل الى رمز شبيه بالآلهة، والمرأة الى كائن مضطهد ومحتقر ومسؤولٍ عن الخطيئة والغواية والفتنة وخروج آدم من الجنة، وعن كل شرّ وبليةٍ في الدنيا، شأنها شأن «بندورا» في الأسطورة اليونانية. وخلْقُ الله لها، من ضلعٍ أعوج من آدم، لهو دليلٌ على أنها الفرع وليس الأصل، وعلى أن المرأة موجودٌ ثانٍ (أو آخر) خُلق من أجل الرجل، ولذلك عليها الخضوع له، لأنه صورة الله، وهو رأس المرأة، كما أن المسيح هو رأس الكنيسة.
وهذا التاريخ الذكوري نفسه، هو الذي شجع المرأة كي تكون شيئاً منفعلاً وليس فاعلاً، عبر التركيز على جسدها وثيابها وتبرّجها وجمالها، كي تحوز إعجاب الرجال. وقد تقبّلت المرأة هذه الصورة النمطية التي رسمها الرجال لجمالها وجاذبيتها الجنسية، وانساقت وراءها ورضيت بها. ما يعني أنّ المرأة بسلبيتها وعدم مقاومتها لهذه الصورة المذلّة، مسؤولة هي أيضاً عمّا لحقها من ظلم واضطهاد وتحقير.
أما دو بوفوار فترى أن الشخص لا يولد امرأةً في مجتمعنا التقليدي، بل يصبح امرأة، وذلك ضمن واقع ذكوري متسلط تشكّل انطلاقاً من مفهوم السلطة الاقتصادية عبر العصور. لذلك فإنّ «الأنوثة» التي هي مزيج من الروح الداعرة والغنج والدلال والرضوخ والعبودية، هي منتجٌ مصطنع ومفبرك خرج من رحم الحضارة الذكورية. إنها انحرافٌ مكتسب اجتماعياً، تماماً مثل غريزة الغرور والأنا الذكورية المنتفخة، التي هي مكتسبة وغير فطرية لدى الرجال.
وتنتهي سيمون الى تأكيد الفكرة التالية: لا يوجد قدر بيولوجي أو نفسي أو اقتصادي يقضي بتحديد شخصية المرء كأنثى في المجتمع. فالإنسان كائن غير محدد مسبقاً، وهو الذي يضع نفسه بنفسه، ويقرر ما هو عليه. لذلك فعلى المرأة أن تكسب وجودها، وأن لا تصل هُويتها بهُوية الرجل.
لبنان والعالم العربي
وبرغم النضال الذي قادته النساء على مدى عقود للمطالبة بمساواتها بالرجل على مستوى الحقوق، وبرغم الاتفاقات الدولية، وعلى رأسها معاهدة «سيداو» التي طالبت باستبعاد كل أشكال التمييز ضد المرأة، إلا ان نظرةً فاحصةً الى الأعداد المتعلّقة مثلاً بمشاركتها في الحياة السياسية في أوطانها، تجعلنا نجزم أن الطريق ما تزال طويلة أمامها لفرض وجودها واستعادة أدوارها المسلوبة، إذ إن 5 في المئة من رؤساء العالم هنّ من النساء، ونحو 19 في المئة هي نسبة النساء في برلمانات العالم، و6.8 في المئة هي نسبة النساء في البرلمانات العربية، و7 في المئة هي نســــبة الوزيرات في العالم، ونحو 10 في المئة هي نسبة تولّي النساء للمناصب السياسية في العالم.
وعلى مستوى لبنان الذي يُعتبر أول بلد عربي أعطى المرأة الحقّ بالترشح والاقتراع العام في العام 1953، نجد أن عشر نساء فقط قد تمكّنّ من الوصول إلى البرلمان منذ الاستقلال، وسبع نساء فقط وصلنَ إلى منصب وزيرة في الحكومة. وهذه النتائج محبطة بالفعل، ومخيّبة للآمال.
اندلعت الثورات العربية، فوجدت المرأة العربية أن الفرصة مؤاتية لها كي تسترد بعضاً من حقوقها المسلوبة في ظل الأنظمة الذكورية والدكتاتورية. ولذلك فقد اندفعت على قدم المساواة مع الرجل للمشاركة في التظاهرات والتحريض على النزول الى الشارع واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لزيادة الوعي الشعبي بأهمية قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية. وقد اعتُقلت وسُجنت وشاركت في المفاوضات وكانت صوتاً صارخاً بوجه الظلم والقهر والاستبداد والتسلٌط والطغيان ومصادرة الحقوق والحريات.
فهل تنصف الأنظمةُ التي ستقوم في أعقاب الثورات العربية المرأةَ باعتبارها تشكّل نصف المجتمع؟ وهل تعترف بقدراتها وإمكانياتها وأحقيتها في ان تكون عنصراً أساسياً من طبقة صنّاع القرار التي يهيمن الذكور عليها؟ أم انّ المرأة المحاصرة بالمفاهيم الدينية والاجتماعية، ستنكفئ مرة جديدةً إلى المقاعد الخلفيّة، تاركةً الرجال يحتكرون قيادة المجتمع؟
النــــضال النسوي على مستوى نشر الوعي، وتحطيم الصورة النمطية المذلّة، والتحريض على المـطالبة بالحقوق، هو الذي سوف يحسم دور المرأة ومكانتها في مجتمعها.