رلى ركبي/ جريدة الحياة- تربيت في بيت يعج بالنساء من مختلف الأعمار، عمات، جدات، بنات أعمام، جمع بينهن خيط واحد هو قدرتهن على القول والفعل وتحمل مسؤولية وجودهن المستقل. كن نسويات قبل أن يعين مفهوم النسوية كما نفهمه اليوم. أسست عمتي مفيدة في بداية 1950 جمعية المرأة العربية، بالشراكة مع مجموعة من المدرّسات في مدينة حماة، واستمرت هذه الجمعية حتى يومنا هذا، معاندة قرار حافظ الأسد بإغلاق الجمعيات الأهلية الخاصة ودمجها بالاتحاد النسائي. يومها حصلت عمتي على استثناء، نتيجة عنادها ورفضها الانصياع.
أتذكر مما بقي في ذاكرتي من الطفولة، كيف كانت عمتي تجندنا، نحن أطفال العائلة، لكي نذهب معها إلى ريف حماة القريب، والفريق المتطوع لدورات محو الأمية للنساء (1968)، وما زلت أذكر حقول القمح الخضراء في سهول قرية الشيحة والتي تغري باللهو والانطلاق، وحرماننا من اللعب إلا في أوقات نادرة، وغضبنا من تسلط عمتي التي لا تسمح لنا باللهو كما أقراننا.
كيف أقنعتنا جميعاً بأن نعمل من دون أجر، ما زال صوتها يرن في أذني: «هناك أشياء من واجبك عملها من دون مقابل». وكيف غرست في عقولنا مفهوم العمل التطوعي ودوره في تطور المجتمع.
كانت أهداف الجمعية النسائية، ولا أقول النسوية (إذ إنني أعتقد بأن مفهوم النسوية الحالي لم يكن متبلوراً لديهن)، بالدرجة الأولى رفع مستوى المرأة العربية ثقافياً واجتماعياً وصحياً، والقيام بالأعمال الخيرية المؤدية إلى تخفيف البؤس في كافة أوساط المجتمع، وتنمية الوعي القومي والاجتماعي في كافة الأوساط النسائية، وحماية الطفولة والأمومة. أنشأت الجمعية روضة ومدرسة مختلطة في مدينة حماة، أما تمويلها فكان من اشتراكات النساء المنتسبات بداية، ومن الأقساط المدرسية.
ما دفعني للحديث عن عمتي وجمعية المرأة العربية، هو المد النسوي الحالي وعلاقته بالمجتمع السوري. كيف يمكن تحويل الهم النسوي المتعلق بالمساواة وإعادة صياغة القوانين، بما يضمن حقوق المرأة، إلى همّ مجتمعي لا ينحصر بعدد محدود من النساء؟
الحركة النسوية السورية ليست حديثة العهد، ولها بعض الإنجازات التي لا تتناسب مع طموحها. لكن التغيير المنشود يحتاج إلى سنوات طويلة من العمل المجتمعي الدؤوب، من أسفل الهرم وبعيداً من أجندات المنظمات وطروحاتها الموحدة، وأن يترافق هذا مع البحث عن الحرية والديموقراطية، فلا ديموقراطية من دون مشاركة النساء ولا مشاركة للنساء من دون ديموقراطية: إنها حلقة مغلقة يصعب النفاذ منها في ظل الأنظمة القمعية. أليست رشا الشربجي التي أمضت ما يقارب الثلاثة أعوام سجينة مع أطفالها في البداية ثم محرومة منهم، أليست مثالاً رائعاً عن نضال المرأة وشجاعتها؟ رشا لم تناد بالمساواة وتغيير قانون الأحوال الشخصية، لكن أي تتويج لمشاركة المرأة أرفع من تلك المشاركة؟!
قبل بداية الثورة كنت أرفض الانخراط في المنظمات النسوية، لقناعتي الراسخة بأن الظلم واقع على قطبي المجتمع رجالاً ونساء، وأن القمع لا يميز بين رجل وامرأة، حتى جاء يوم دار نقاش بيني وبين صديقة نسوية، حول حقوق المرأة والتمييز الواقع عليها في قانون الأحوال الشخصية وغيره، وعن الوصاية والقوامة، وعن تجارب النساء ومعاناتهنّ والظلم المجتمعي الواقع عليهن، إضافة إلى الظلم العام. واقتنعت بأنه الوقت الملائم للقيام بتغيير في هذا المجال.
في إحدى الجولات وضمن فاعلية تهدف إلى نشر مفهوم الجندر والمساواة، على صعيد القاعدة الشعبية، انبرت إحدى المشاركات ساخرة من الطرح، معبّرة عن أن همّها ينحصر بأن ينام أطفالها وبطونهم ملآنة وقلوبهم دافئة!
استوقفتني الملاحظة كثيراً، وبدأت أسئلة كثيرة تراودني: ما حقيقة أن حقوق النساء الإنسانية حقوق عابرة للثقافات، وكيف يمكن ربطها بالهموم المحلية؟ هل يمكن الفصل بين النضال النسوي والنضال من أجل الحرية والديموقراطية؟ هل يمكن البناء من قمة الهرم إلى أسفله؟ كيف يمكنني أن أقنع أمرأة تدافع عن حق الرجل بتعدد الزوجات بأن هذا الفعل اعتداء على المرأة وحقها في الكرامة؟ كيف يمكنني أن أشجع امرأة مهتمة في الشأن العام على خوض غمار العمل السياسي وهي تعلم بأن هذا سوف يعرضها لحملات استباحة معنوية، ناهيك عن إمكان تعرضها للاعتقال والاغتصاب وكل أشكال العنف المتخيلة؟! أما في أماكن سيطرة القوى السلفية (داعش) فالأمر أخطر، حيث أصبح التمييز ضد المرأة بمثابة تمييز عنصري حقيقي، ممأسس ومستند إلى تفسيرهم الخاص للدين: منع السفر، إجبارهن على وضع الحجاب، إبعادهن من العمل، من المدارس، من المجتمع. فالمرأة، والحال هذه، مركونة في منطقة اللامواطنة، اللاحقوق، حيث القاعدة هي الخضوع التام للرجل القوي باسم الدين!
هناك الكثير من البلدان الديموقراطية لم تحصل فيها النساء على كامل حقوقهن، وما زال هناك الكثير من الفروق، خصوصاً في ما يتعلق بموضوع الأجر، لكنهن قطعن شوطاً كبيراً نحو المساواة وقوننتها. إلا أن النسوية في بلادنا ما زالت محكومة بنظم مجتمعية ودينية، ناهيك عن النظم القمعية المهيمنة. لذلك لا بد من مراجعة آليات عملها، فهي خيار وجودي مرتبط بالمساواة والعدالة والحرية، ولا يمكن فصل النضال النسوي بالتالي عن النضال من أجل هذه القضايا مجتمعة.