تعامل الصحافة مع القضايا “الجنسية” و”الأخلاقية”: المرأة “المتّهمة” دائماً
المرأة “المتّهمة” دائماً!

محمود عبد الرحمن/legal-agenda- قبل أشهر، أثارت قضية تحرّش رجل بطفلة في حي المعادي ذعر المواطنين، وفي خضمّ تناول المواقع الصحافية للواقعة أخفت ملامح الرجل ولم تنشر بياناته الشخصية، لكن في حالات أخرى يراها المجتمع فضائح أخلاقية كانت تنشر بيانات وصور المرأة حتى إن كانت المجني عليها. ففي حادثة التحرّش بـ”بسنت” أو كما عرفت إعلاميًاً بفتاة ميت غمر، التي حدثت في ديسمبر 2020، نشرت المواقع الصحافية بيانتها وصورها، فيها أخفت بيانات وصور المتحرّشين.

في يناير 2021 نشرت المواقع الإخبارية المصرية أخباراً تفيد بالقبض على طبيبة في مدينة المحلة بمحافظة الغربية، بسبب علاقاتها الجنسية المتعدّدة بعدما تقدّم زوجها ببلاغ وفلاشة تحتوي على مقاطع فيديو لها في أوضاع حميمة، وكانت الطبيبة حديث المواقع الإخبارية على نطاق واسع، ووصفت حينها بـ”عنتيلة المحلة” لقدراتها على تعدّد العلاقات الجنسية، إلى أن نفت النيابة العامّة بعد أيام ما روّجه زوجها وكشفت تلفيقه للواقعة.

إذاً تعتمد صحافة الإثارة بشكل كامل على المرأة، إذ أنّها العنصر الأكثر جذباً للقرّاء، وحينما تكون المرأة طرفاً يتنازل الموقع الصحافي عن قواعد وأخلاقيات المهنة وقوانين حماية البيانات الشخصية بعكس تمسّكه بتلك القواعد إذ كان موضوع القضية رجل. وهذا الأمر بدأ حتى قبل تركّز النشر على الإنترنت، حيث كانت بعض الصحف تعتمد الإثارة وتستعمل عناوين أخبار تُبرز دور المرأة أو تورّطها في قضايا أخلاقية أو غير قانونية. وتدور تلك الأخبار حول القتل، أو “الخيانة الزوجية” أو تجارة المخدّرات أو الدعارة. ولا تزال تلك المدرسة مستمرّة مع النشر الرقمي بعدما أصبح الوصول إلى الجمهور أسرع وأيسر.

المرأة دائماً موضوع صحافة الإثارة

يرصد الكاتب فتحي حسين عامر، في كتابه “المسؤولية القانونية والأخلاقية للصحفي” تصوّرات سلبية دائماً ما تنشرها صحف عن المرأة، بداية من أنّها هي التي تخون زوجها أو تتورّط في جرائم جنسية، ويشير إلى أنّ الصحافة تسرف في تصوير وتجسيد تفاصيل هذه الخيانة أو الجريمة البشعة، مع الحرص على إضفاء الطابع الدرامي للجريمة وتجسيد النهاية التي يمكن أن تنتهي إليها “الخائنة” وتبرز المرأة على أنّها سلعة رخيصة تباع وتشترى لمن يدفع أكثر من راغبي المتعة.

وبجانب التصوير الدرامي كانت الصورة الفوتوغرافية بمثابة العنصر البارز المصاحب للموضوع الصحافي لزيادة درجة الجاذبية عند القرّاء. فبحسب الكاتب نفسه فإنّ صحف “النبأ الوطني، والأسبوع، وصوت الأمة، والميدان”، تعتمد عناوينها على وصم واتهام المرأة بالخيانة وممارسة الأفعال غير الأخلاقية. ورصد بين عامي 2003 و2004 عناوين مثل “تفاصيل سقوط فاتنة في أحضان رجل أعمال شاب” و”مارست علا الجنس مع 10 أشخاص في يوم واحد” و”سقوط 30 فاتنة عربية في شبكة آداب تلبّي رغبات الأجانب بالقاهرة”.

وتتشابه تلك التغطية الإخبارية مع تغطية القبض على عدد من الفتيات اللاتي ينتجن محتوى بصرياً على تطبيق “تيك توك”، بين أبريل ويوليو 2020، وكان السبب الأبرز “تهديدهم لقيم الأسرة المصرية”، وتسابقت المواقع الصحافية على نشر تفاصيل ومعلومات وصور الفتيات والتهم الموجهة إليهنّ.

وبرأي الدكتور مصطفى شحاتة، أستاذ الإعلام بجامعة المنوفية، فإنّ الصحافة ليست سوى مرآة المجتمع التي تعكس إدراكه ووعيه وأحكامه الأخلاقية على شتى القضايا. وبالتالي فإنّ طريقة تعامل صحف مصرية “عريقة” مع قضايا فتيات الـ”تيك توك” تضمّنت إدانة الفتيات والتشهير بهنّ واتهامهنّ بالخروج عن قيم المجتمع، وذلك يعبّر، على الأقل جزئياً، عن توجّهات المجتمع تجاه المرأة.

ويفسّر د. شحاته في مقابلة مع “المفكرة القانونية”[1] ذلك التعامل بأنّه ناتج عن مراحل الركود والانحدار الفكري للمجتمعات التي يغيب أو يُكبّل فيها الدور التنويري للصحف والإعلام بشكل عام.

هدف الإثارة زيادة القراءات وجذب المعلنين

ثمّة توّجه واضح لدى بعض الجرائد والصحف لاستخدام الإثارة في مواضيعها وذلك من خلال جعلها المرأة محوراً لها، بحسب كتاب “المسؤولية القانونية والأخلاقية للصحفي” الذي حاور مديرين ورؤساء تحرير صحف خاصة مصرية بخصوص الاعتبارات المهنية والأخلاقية التي تحكم النشر، وكشف طلعت عبد الفتاح مدير تحرير “الأسبوع” أنّ الجريدة تنشر ما تراه يتوافق مع سياستها التحريرية وليس ما يثير أو يخدش حياء القرّاء، أما عادل حمودة الذي كان رئيس تحرير جريدة “صوت الأمة” فقال إنّه لا يرى معنى لما هو “غير لائق” بخاصّة في ظل الاختلاف على ما هو لائق وغير لائق مستندًاً على عدم وجود قانون يحكم هذه الجملة لتعدّد المجتمعات داخل المجتمع الواحد.

وحسب الكاتب، فأسباب الانحراف عن أخلاقيات المهنة والتشريعات الصحافية يعود إلى اعتبارات تحقيق معدّل مبيعات أعلى وبالتالي جذب معلنين.

ولعلّ ما رصده الكاتب يتوافق مع وجهة نظر آمنة أمين، الباحثة في علم الاجتماع[2]، التي ترى في حديث إلى “المفكرة” أنّ الدافع إثارة مشاعر الناس سواء بالكره أو بالحب، ولكي يجد الجمهور من خلال صور المرأة أو مقاطع الفيديو أو محتوى الموضوع مبرّراً لإدانتها، حتى بتفضيل الناشر لصورة على أخرى تبرز ملامح معيّنة تثير الجمهور تجاه فعل معين، وبالتالي يفتح مساحة للتفاعل ومن ثم يجذب أكبر عدد من الزيارات للموقع، وهذا أحد أنواع تسليع المرأة.

مغازلة الثقافة الذكورية

لكن هل المرأة دائماً متهمة صحافيًاً؟ يجيب على ذلك د. مصطفى شحاته، في ضوء قضية “طبيبة المحلة”، إذ يقول إنّه بحكم العادة تحظى أخبار النساء والفتيات “الأخلاقية” باهتمام المجتمع، وبحكم الموروثات لدى كثير من الرجال التي تعتبر المرأة – بقصد أو بدون قصد – ملكيّة خاصّة ليس لها حرية الاختيار، تصبح التصرّفات البسيطة للمرأة محطّ أنظار المجتمع ودرباً من دروب الخروج عن المألوف، والصحف جزء من هذا المجتمع تعكس مزاياه وعيوبه.

في قضية طبيبة المحلة انتشرت الحادثة سريعًاً لغرابتها، فبحسب د. شحاته، راج استخدام كلمة “عنتيل” في أحداث مشابهة مع كثير من الرجال في السنوات الأخيرة، وما حدث في قضية طبيبة المحلة، كان مثيرًاً للجمهور ومختلفاً هذه المرة لأنّ المتهم “سيّدة”، والمصطلح غريب بعض الشيء عند تأنيثه.

ولفت في هذا السياق إلى أنّ كثير من الصحف تدأب على إسناد تهم إلى أفراد بدون التثبّت من حقيقة الأحداث.

يضاف إلى غياب المهنية الرغبة لدى البعض في مغازلة الثقافة الذكورية، ويفسّر المحامي والمدرّب الحقوقي أحمد أبو المجد[3] في حديث مع “المفكرة” الأمر بأنّه يكون عبر إدانة المرأة، ويشير إلى سبب آخر هو تصدّر محركات البحث عبر “ركوب الترند” وزيادة عدد المشاهدات، عبر نشر قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي، لافتًاً إلى أنّ النشر يكون بتعليمات من إدارة المؤسّسة الصحافية والإعلامية.

تندرج تلك التغطية الصحافية تحت العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي يشمل أيّ عمل ضار يُرتكب ضد إرادة الشخص، ومرجعه الاختلافات المشيدة اجتماعياً فيما بين الذكور والإناث، كما يشمل أفعالاً تلحق الأذى، أو الألم الجسدي، أو الذهني أو الجنسي، وهي أفعال قد يتحقّق بعضها بشكل مباشر أو غير مباشر مع تناول قضايا تخصّ حياة المرأة بالتشهير أو بنشر معلومات كاذبة[4].

ويرى أبو المجد أنّ اللعب على المشاعر الذكورية يبدو واضحاً خلال السنوات الماضية، حتى لو كانت القضية بعيدة عن القضايا الأخلاقية أو الجنسية، مستشهداً بحلقة للإعلامي تامر أمين مع الدكتورة وعضو مجلس النواب حينها، رانيا علواني حينما قال لها “إنتي عضو مجلس إدارة الأهلي وعضو برلمان وبطلة وسباحة وجوزك قاعد في البيت بالعيال” وبعد ذلك وجّه حديثه إلى زوجها ” إحساسك إيه وإنت بتذاكر للأطفال وهي دلوقتي في التلفزيون”.

ما فعله تامر أمين نوع من أنواع التنميط بالاستهجان من وجود امرأة ناجحة وزوجها ناجح من دون أن يسيطر طرف على الآخر. ويلجأ الإعلام بشكل عام إلى التنميط فهو يقوم بدور الرمز الذي يقدّم للجمهور المتلقّي مفهوماً ما، أو مفتاحاً سريعاً ومشتركاً لشخص أو مجموعة من الأشخاص. وتتضمّن قولبة البشر عدداً من الإشكاليات ذات الأثر البعيد في تشكيل وعي وإدراك الناس.[5]

بسنت.. نموذجاً

وبالنتيجة فإنّ نشر البيانات الشخصية ليس مفاجئاً لتلبية احتياجات جمهور الإنترنت، إذ ركّزت صحف خلال فترة 2003- 2004 على نشر بيانات المتّهمين أو الشهود لتحقيق أعلى معدلات توزيع. وقد أعطى كتاب فتحي حسين أمثلة عدة لجرائد تعتمد على نشر بيانات وصور فتيات تورّطن في جرائم. وأورد خبراً نشر في جريدة “صوت الأمة” عنوانه “طالب الآداب فوجئ بحبيبته التلميذة في أحضان والده” وفي متن الموضوع نشر اسم الفتاة، الأمر ذاته ارتكبته جريدة “الميدان” حينما نشرت أسماء فتيات صغيرات اتهمنّ بممارسة الدعارة.

تتسق التغطية السابقة مع تغطية الصحافة في سنة 2021 مع قضية “بسنت” التي تعرّضت للتحرش ودأبت مواقع عدة على نشر صورها وبياناتها الشخصية، رغم وجود قانون حماية البيانات الشخصية، في المقابل حجبت بيانات وصور المتهمين بالتحرّش.

يفسّر حسين في كتابه “المسئولية القانونية والأخلاقية للصحفي” بأنّ الصحف تسعى إلى الإثارة مؤكداً أنّ تلك مدرسة صحافية موجودة في مصر. وأجابه على ذلك أحد الصحافيين المشاركين في تلك النوعية من الأخبار: “السبب وراء اتباع أسلوب الإثارة في العناوين والمتن يعود إلى السياسة التحريرية للجريدة من جهة ليعرف الناس الحقيقة ومن جهة أخرى لتلبية مقتضيات التوزيع”.

ومن جهة أخرى، يشير د. شحاتة إلى أنّ الصحف تلجأ في كثير من الأحيان لإخفاء صور وأسماء المتهمين حتى لا يتم مقاضاتها بالتشهير بأشخاص لم تثبت إدانتهم بعد. لكن بالنسبة للضحية، فهي تعتبر أنّها مُعتدى عليها وظهور صورتها أو اسمها (في حالات معيّنة) لا يسيء إليها على الإطلاق، على العكس لا بدّ أن تحظى الضحية باحترام وتقدير وعطف المجتمع.

ماذا عن المرأة موضوع الأخبار؟

ولكن على عكس ما تتحجّج به بعض الصحف، تتأثر الناجية من العنف (أي العنف المبني على النوع الاجتماعي كما أسلفنا) بالصورة الذهنية السلبية التي قد تتركها الأخبار والتقارير المضلّلة التي تنشر عنها أو الأسماء التي توصم بها، ومن هذه التأثيرات ما هو فوري وتأثير آخر طويل الأجل، يكون على الصحّة الجنسية والجسدية والنفسية إضافة إلى التسبّب بجملة من الاضطرابات النفسية يعاني منها الناجون، وتشمل أعراض التوتر والاكتئاب. ويمكن أن يكون للعنف القائم على النوع الاجتماعي جملة عريضة من التبعات الصحّية.[6]

أما عن المسار القانوني، يقول أبو المجد إن نشر معلومات كاذبة جريمة لكن من سيبلّغ عنها، موضحًاً: “الناجية/ الضحية عادة لا تتقدّم ببلاغ لأنّها لكن تكون قادرة على خوض معارك أخرى، فضلاً عن التكاليف المادية والوقت، خصوصاً أنّ البلاغ سيكون ضدّ أكثر من موقع وصحيفة، كما أنّ التحرّك القانوني لإنصاف الضحايا بطيء وفي الغالب الضحايا يقرّرن تجاهل ملاحقة وسائل الإعلام حتى يختفي الموضوع وتعود إلى حياتها.

من الناحية المهنية، يسرد أستاذ الإعلام ثلاثة أسباب يرى أنّها الأهم في تعامل الصحافة مع المرأة في تلك القضايا، ويقول إنّ السبب الأول عدم وجود رادع مؤسّسي من الجهات التي تنظّم عمل الإعلام يحمي المتّهم الذي لم تثبت إدانته. أما الثاني فوجود فيضان المعلومات والأخبار الوارد من مواقع التواصل الاجتماعي والتي تبدأ بتفجير كثير من الأحداث وتنشر صور وفيديوهات وتكيل الاتهامات قبل التثبّت من الوقائع. وفي هذه الحالة تجد الصحف نفسها تنقل عن مواقع التواصل الاجتماعي من دون تحقّق.

ويضيف أن السبب الثالث أنّ الصحف باتت في موقف لا تحسد عليه نتيجة الانخفاض المطّرد في التوزيع وحتى في مطالعة مواقعها الإلكترونية، وهو ما دفع الكثير من الصحف إلى اللهث وراء العناوين المثيرة ونشر صور متهمين في قضايا قد تكون ظنّية.

ومن جهة أخرى، يرى أبو المجد أنّ العقوبة على النشر والتشهير ليست كافية لحماية المرأة في المجتمع، وأنّ هناك ضرورة لوجود قانون كامل لمواجهة العنف ضد النساء، يحتوي على تعريف متكامل للعنف وخاصة العنف النفسي، مع تبنّي نقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للإعلام توجّهات جندرية لمناهضة العنف فضلاً عن تدريب الإعلاميين والصحافيين على التناول الإعلامي لقضايا العنف، علاوة على أنّ القانون لابدّ وأن ينصّ على وجود شرطة ونيابة وقضاء متخصّصين في هذه القضايا.

  1. جرى الحديث في 11 مارس 2021. 
  2. جرى الحديث في 4 مارس. 
  3. جرى الحديث في 12 مارس. 
  4. العنف القائم على النوع الاجتماعي. صندوق الأمم المتحدة للسكان، 2020.
  5. نمط.. الصورة تطلع وحشة. 2003 تقرير عن أشكال تنميط صور النساء والرجال في الدراما.
  6. تقرير العنف القائم على النوع الاجتماعي. صندوق الأمم المتحدة للسكان، 2020. 
المرأة “المتّهمة” دائماً!

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”. 

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015