إيمان ونوس/ جريدة الحياة- تفقد الحياة جمالياتها وروعتها، وحتى إنسانيتها حين يفتقد الأطفال مقومات البراءة والنمو الطبيعي في أجواء مفعمة بالدفء والأمان والمحبة والسلام.
هذا ما يفتقده أطفال سورية في الداخل والخارج. في المناطق الآمنة والساخنة على السواء، إذ إنهم وبلا استثناء، من الرضيع إلى اليافع، لا يجدون متطلباتهم في واقع غير طبيعي ينوء البالغون عن تحملّه، فكيف لأغصان غضّة وندية أن تتحمّل رياح هوجاء عصفت بجذور الأمان والسلام والاستقرار؟
فعلى رغم بعض الهدوء الذي شهده العام المنصرم، إلاّ أن ما عايشه أطفالنا على مدى سنوات الحرب لم يترك للطفولة أيّاً من سماتها ولا ملامحها التي اندثرت تحت وقع سنابك الحرب والتهجير والنزوح والجوع والبرد والتشرّد في شوارع ومدن غصّت بهم حتى تخالهم عند رؤيتهم كل صباح كهولاً رسم الزمن على وجوههم أخاديد الشقاء والبؤس والخذلان. والوضع ليس أقل قسوة ومرارة في بلاد غريبة لم ترَ فيهم سوى تجارة رابحة بمختلف المقاييس والأبعاد عبر تجارة الرقيق بمسمياته المستحدثة المواربة، أو عبر تجارة الأعضاء البشرية القذرة، وكذا عبر المتاجرة بقوت يومهم من خلال تشغيلهم بأعمال لا تليق بالكبار، حتى باتت الإعلانات عن تشغيل الصغار السوريين تتصدّر الواجهات من دون شفقة أو خجل في بلدان اللجوء.
هذا الواقع المأسوي والخطير للطفولة السورية لا شك سيجعل من المستقبل لوحة قاتمة بامتياز، لأن هذه الطفولة هي التي ترسم المستقبل وفق حتمية الزمن والحياة. إن مشاهد القتل أو الموت لمقرّبين من الطفل، أو عبر وسائل الإعلام، تُفجّر في داخله الألم المقيم وحبّ الانتقام من جهة، وتتركه أسير الخوف والرعب من الآخرين البالغين مهما كانوا مسالمين من جهة ثانية. فضلاً عن أن مسألة النزوح والتهجير والتشرّد عن البيت والحي والمدرسة والرفاق، تجعله يعيش غربة وعزلة عن محيطه الجديد، مّا يدفعه إلى الانزواء وعدم الرغبة في ممارسة الحياة مع أناس جدد، وربما ينظر إلى والديه على أنهما غير قادريَن على حمايته، وبالتالي ستنهار ولا شكّ بعض منظومات القيم الأخلاقية والتربوية في داخله، لينتعش الحقد وعدم احترام كل من له صلة بالحدث بمن فيهم أبويه. وحين يواجه الطفل العنف وسلوكيات سيئة من الآخرين كالاعتداء الجسدي أو التحرّش الجنسي، سيُبادر إلى الدفاع عن نفسه بإمكانات هشّة لا يمكنها حمايته، حينها سينظر إلى ذاته على أنه ضعيف وغير قادر على فعل أيّ شيء، في الوقت الذي ينظر فيه إلى المعتدي نظرة احتقار وخوف تبعدانه عن الاختلاط بالآخرين بمن فيهم أقربهم إليه، وهذا ما سيجعله مستقبلاً إنساناً خاملاً وعديم الثقة بذاته والآخرين، ما يؤثّر في فاعليته الذاتية والعامة على المدى البعيد.
وعندما يتخلّى الطفل عن مدرسته مرغماً أو حرّاً من أجل البحث عن قوت أسرته التي باتت في مهب رياح الفقر والعوز والجوع، فإنه ربما يتبنّى مُبكّراً مفاهيم مناهضة للعلم الذي يراه معيقاً في الحصول على المال الذي يراه اليوم وغداً أهمّ بكثير من العلم بشهاداته ومكانته كلها، وبهذا سيكون المجتمع أمام نسب عالية من الأميّة تفوق النسب السابقة التي كافح طويلاً في محاولة القضاء عليها بشتى الطرق من جهة، ومن جهة أخرى سيكون لدى المجتمع ذاته أفراد يقدّسون المال ويسعون إليه بمختلف السبل المشروعة أو اللامشروعة. وحين يجندون في الأعمال العسكرية، فإنهم ولا شكّ سيغوصون عميقاً في مستنقع العنف والقتل والإجرام، بحكم تشويه منظومتهم الإنسانية والأخلاقية القائمة على التعاطف والمحبة والسلم، وبالتالي سنكون أمام جيل متمرّد عنيف لا لغة لديه سوى القتل وإقصاء الآخر المخالف لمعتقدات وأوهام بثت في شكل بشع في أذهانهم النقيّة والبريئة.
أمّا في شأن ما تتعرّض له الطفلات من تحرّش وزواج مبكّر يقضي على براءتهن ويحرمهن مرحلة عمرية هامة وأساسية في حياتهن، حين ينتقلن وفي شكل مفاجئ من الطفولة إلى الزوجية بأعبائها والتزاماتها القاسية على أجسادهن الغضة، وتفكيرهن البسيط البريء فقط لأنهن إناث، سيجعلهن يعشن مستقبلاً حالة تناقض في رؤيتهن وتقديرهن لذواتهن كإناث ضعيفات مهمتهن فقط الجنس والإنجاب، بينما يجدن في الذكور سندهن وحمايتهن بحسب التفكير القبلي السائد، ما يدفعهن إمّا إلى الاستهتار بالقيم الأخلاقية والأسرية، وبالتالي الانحدار والسير في دروب شائكة ووعرة تؤذي إنسانيتهن قبل أنوثتهن، وإمّا اعتماد منظومة تربوية لأبنائهن قائمة على التمييز والعنف ضدّ الفتاة، وبالتالي سنبقى لأجيال وأجيال في دوامة العنف والتمييز وإقصاء المرأة.
هذا غيضٌ من فيض ما يعانيه أطفال سورية منذ نشوب الحرب، وما ينتظر مستقبلها حتى وإن توقفت اليوم، لأن ما تغلغل في النفوس، وما عشّش في المنظومات القيمية والأخلاقية وحتى الدينية على مدى سنوات تلك الحرب، لا يمكن تجاوزه بسهولة على المدى المنظور، ما يتطلّب من الجميع أفراداً ومؤسسات اجتماعية ودينية، ومنظمات مدنية وحكومية، وحتى دولية الابتعاد ما أمكن عن المناظرات والاتفاقات الفارغة من أيّة قيمة عملية وواقعية، وتلك المؤتمرات المتتالية الخاوية من أيّة نتيجة فعّالة يمكنها الوصول بنا جميعاً إلى السلام المنشود، وكذلك الإسراع بتأهيل الكوادر العلمية بمختلف اختصاصاتها والاجتماعية المناسبة للبدء بالعمل الجديّ والحقيقي والفعّال لمعالجة كل ما تشبّث في أذهان ومنظومة تفكير أطفال سورية ورؤاهم، الذين انتظروا قدوم «بابا نويل» ليحمل لهم الفرح والأمان والسلام والطمأنينة الداخلية، كي يعودوا إلى مرابع طفولتهم التي استباحتها الحرب، في ظلّ تآمر الجميع عليهم داخلياً وخارجياً بمن فيهم المجتمع الدولي بهيئاته ومؤسساته المعنية في شؤونهم، واتفاقيات وعهود وإعلانات دولية بقيت حتى اليوم حبراً على ورق، على رغم تصدّر حقوق الطفل جوائز نوبل هذا العام وقبله بأعوام خلت. لعل هناك من مغيث أو مستجيب.