هبة العلي/ swnsyria- تقول متنهدة متألمة تسبق دموعها كلماتها: “بدأت رحلة الشقاء منذ أن قررنا الهجرة واللجوء فكيف لنا أن نترك بيتنا، أحبتنا، الجيران، بلدنا، لنستقر في بلد لم نألفه. ولكن الظروف كانت أقوى حيث طغى الخوف على كل المشاعر وهول الحرب كان كافياً لأن نخرج دون تفكير. لاقينا ما لم نتوقعه، فعثرات الطريق كثيرة والوقوف على الحدود وبقاؤنا فترة أسبوع عالقين استنفذ كل قوانا وطاقتنا وبعدها تقرر إدخالنا إلى المخيم، اعتقدنا أننا سنجد ملاذاً وملجأ من أهوال الحرب والعنف، لم يكن الواقع موافقاً للتوقعات، لكن على الأقل لن تفتك بنا آلة الحرب أو نسمع صوت أدواتها يدقّ أذاننا ويؤذي أنظارنا… وجدنا صعوبات كثيرة بالتأقلم مع الواقع الجديد، واقع صحراوي كئيب يفتقد لأساسيات الحياة”.
تصمت فترة لتقول: “كل ذلك لا يساوي لحظة حزن تسكن داخلنا”، وتبدأ لتروي، هبة الطفلة بنت الرابعة عشرة، قصة زواجها.
هبة: الطفلة .. المرأة المطلقة
تقول هبة: “بعد سنتين من إقامتنا في المخيم، كنا قد تعرفنا إلى عائلة من بلدتنا، وقد وجدوا فيَّ زوجة مناسبة لإبنهم الشاب العشريني. تم الاتفاق بين العائلتين وكأن كل من الطرفين أبرم صفقة حياته، فوالدي خلع عبئي عنه ليرميه على غيره، ولكنه يخفي ذلك بقوله السترة أولاً، وكأنني عار عليه. ووالدتي استطاعت أن تجد شاباً لابنتها مع انعدام فرص الزواج”.
تقول: “عمَّ الفرح الجميع إلا أنا لم أشعر بذلك، كان هذا الزواج كأنه كابوس لي”. تمسح دموعها بكلتا يديها وتقول: “لم يمرّ يوم إلا وألقى الضرب والإهانة من زوجي فكان يتفنّن في إيذائي وضربي، ترددت باللجوء لأهلي فلجات لوالدته التي أخبرتني أنه من واجب الزوجة الصبر على زوجها والوقوف معه، وأخبرتني أنه يعاني من مرض نفسي وبحاجة لعلاج، وبحكم وجودهم في المخيم انقطع عن العلاج وازدادت حالته سوءاً”.
توضح هبة: “تحملت ضربه واهانته لمدة شهرين حتى وصل به الأمر لمحاولة قتلي، لم أعرف كيف أفلتّ نفسي منه، ولكنني استطعت ذلك”، وتتابع “استطعت الخروج من حياته ومن هذه الصفقة الخاسرة للأبد، حيث أصبحت أحمل لقب مطلَّقة وأنا ابنة الأربعة عشر عاماً. أصبحت حديث المخيم وبدأ أهلي بالانزعاج مني، وكأنهم أرادو لي أن أكون الضحية حتى النهاية. أمضيت فترة وقد حرّم عليَّ كل شيء، وهو ما يتمثّل بالجلوس خارج الخيمة، فأصبحت حبيسة الخيمة. مضت على هذه الحال سنتان قبل أن يقرّر أهلي الرجوع والعودة”.
تضيف هبة: “بعد عودتنا وجدت صديقاتي بالرغم من كل ويلات الحرب مازلن يذهبن للمدرسة، وكم تمنيت ذلك ولكن كيف؟ وأنا اليوم أصبحت حديث الجميع!”. تقول بحرقة: “أيام الطفولة والدراسة أصبحت حلماً أراه ولا أريد الخروج منه”.
تقول هبة: “تحتّم عليَّ الجلوس بالبيت لأن والداي رفضا عودتي للمدرسة لأن ذلك لا يتناسب مع عاداتنا وتقاليدنا! أما أنا فكنت أخشى التنمّر”.. تقول: “أنا اليوم أتقن طهي كافة الأطعمة وأصبحت سيدة منزل بامتياز، وأصبحت وكأنني خادمة الجميع فكلما احتاج أحدٌ مساعدة قدّمتني أمي مع خدماتي كهدية منها لمحبيها”.
تقول بأسف: “لم استطع أن أقدّم لنفسي أي شيء سوى الصمت وتقبّل الواقع، فتعلّمت فنون التبصير وقراءة الكف، كيف لا وأنا أجيد الحديث مع النساء وأتنبأ لهنّ بما يحلو لهنّ من الواقع والمستقبل الذي حُرِمتُ أجمل لحظاته وحتى التفكير به!”.
اليوم هبة ليست كالأمس، اليوم تستعد لبدء واقع جديد وحياة جديدة فهل تستطيع ذات السبعة عشر ربيعاً أن تنتقل من آلامها لتحمل آلام زوجها الجديد الذي يبحث عن زوجةٍ ولود، حيث لم يحظ بالأطفال من زوجته الأولى، وهو اليوم يبحث عن ذلك في زوجةٍ صغيرة تصغره بثلاثين عاماً، ثلاثين عاماً لم تكن كافية لرفض أهلها له بل وجدوا فيه الرجل المناسب وكأنه من سيمحو ذنب طلاقها.
تقول هبة: “ليت الدمار كله دمار جدران وأسقف! لكان ذلك أسهل علينا من دمار أنفسنا، كلّ الدمار قابل للإصلاح إلا ما انكسر في نفسي غير قابل للنسيان أو الطي ولا الترميم. وكأنني خُلِقت لأدفع ثمن ويلات الحرب وعاداتٍ رفضتها الجاهلية. ليتنا نستطيع تغيير أنفسنا ونعيد بناءها كما لو أنها بيوت من حجر و جدران…”.
أم أيمن… عذابات لجوء اضطرارية
تروي أم أيمن المرأة الخمسينية قصتها فتقول: “لم أفكّر يوماً بمغادرة البلد أو النزوح مهما اشتدت ظروف الحرب، لكنني اضطررت لمرافقة زوجي لتلقي العلاج في بلدٍ مجاور وذلك بعد تردّي الأوضاع الامنية والخوف من المجهول، لم أقبل بمرافقة أبنائي لي وذلك لالتزامهم بعائلاتهم”. وتكمل حديثها بحزن؛ تقرّر السفر في الفجر وإذ بشاحنة تقف أمام البيت، “شاحنة ثلاجة أو كما نسميها (برّاد نقل) لكنها من الحجم الصغير. صعدنا وزوجي فيها وبدأ بجمع بقية الركاب معنا، ومرَّ على أكثر من قرية، مما جعل الطريق طويلاً أكثر. بعدها بدأت حركة الحافلة بالثقل والصعود والهبوط، وهذا يدل أننا نسلك طريقاً وعرة أو زراعية”.
تقول: “وصلنا لمكانٍ، قال السائق عنده يجب أن نبقى هنا فترة حتى نأمن الطريق، لأن المنطقة أمامنا غير آمنة، أو حتى يأتيه اتصال يسمح له بإتمام الطريق. بقينا حتى عصر ذلك اليوم حتى يأتي أمر الانطلاق مرة أخرى. كنت أتوقع أن معاناتي ستنتهي عندما نصل إلى الحدود، ولكن حدث مالم يكن بالحسبان حيث أُغلِقت الحدود لمدة ثلاثة أيام متتالية، وعند السؤال عن فتح الحدود؟ يُقال لنا: حتى يأتي الفرج من عند الله!. لم أستطع المغامرة والدخول بشكل غير نظامي ولم نقوى على ذلك“.
تقول أم أيمن: “مرّت ثلاثة أيام ذقنا فيها مرّ النزوح قبل أن نعرفه، بعد ذلك سُمِح لنا بالدخول وقرروا إدخالنا للمخيم، حيث تم توزيعنا على خيم وإعطاءنا مستلزماتنا. لم يكن الوضع الصحي لزوجي على ما يرام، فراجعت المركز الصحي حيث قاموا بإعطائنا بعض الأدوية والمسكّنات، وأخبروني بأن وضعه يحتاج لعناية تفوق عناية المركز بإمكانياته البسيطة، وأنه يجب علينا مراجعة أطباء من ذوي الاختصاصات وإجراء الفحوصات الطبية اللازمة، وعندها قررت مغادرة المخيم. ذهبت إلى إدارة المخيم والتي كانت إدارة محلية مزاجية في كل قراراتها، لم أحظ بموافقة الخروج إلا بعد دفع مبلغ مالي وكُتب في التقرير الخروج لظروف صحية. بعدها لجأت الى إحدى القرى القريبة، وبعد السؤال والاستفسار وجدت بيتاً صغيراً للإيجار حوله قطعة أرض لا بأس بها، وبدأ الجيران بالتوافد إلينا والسؤال عن حالنا وما نحتاج إليه وتقديم خدماتهم. طلبت منهم أن يعرّفوني على أقرب مركز طبي، فكان في البلدة المجاورة، ذهبنا وبعد المعاينة لم يكن الوضع الصحي لزوجي سيئاً، ولكن ليس كما ينبغي وبجب مراعاته، وتقديم عناية خاصة له. و بعد ساعات طويلة من الانتظار رفض القائمون على المركز الصحي إدخالنا لنقص في الأوراق التي تثبت دخولنا للمخيم، و لكن بعد عناء طويل، تقرّر الفحص وذلك لظروف إنسانية وتمت المعاينة”.
تقول: “كنا نعيش على ما يرسله أبنائي لي، والذي بدأ بالتناقص شيئاً فشيئاً بسبب سوء الوضع المعيشي. فبدأت باستغلال قطعة الأرض وزراعتها بأنواع مختلفة من الخضار. كنا نشغل وقتنا بها وكانت كمتنفس بسيط لنا. وفي هذه الفترة تعرّفنا على الكثير من أهل القرية وأصبحت جميع النساء صديقاتي، فكنت لهنّ الأخت والأم والجدة لأطفالهنّ. كن يستودعن أطفالهن عندي وأساعدهنّ في كل شيء، وأصبحت ملجأ الكثيرات منهنّ. وقد ساعدني ذلك بالترويج لعملي المنزلي بصناعة المؤونة الصيفية والشتوية، مثل ربّ البندورة والمربيات، وكل ما هو قابل للتخزين، حيث استطعت من خلال هذا العمل ادخار بعض المال للأيام القادمة. خلال هذه الفترة كنت أقوم بهذا العمل وأراقب الوضع الصحي لزوجي والذي بدأ بالتراجع يوماً بعد يوم مما اضطرني لإدخاله للمشفى، وهناك لم يلقَ الاهتمام والرعاية الكافيين وكان الجواب دائماً أنّ العلاج مكلّف والإقامة مكلفة ولا أستطيع تحمّل التكاليف. اضطررت لإخبار أبنائي بذلك ولكن ما وصلني منهم غير كافٍ وما ادخرته لا يفي بالحاجة، فلجأت لاحتضان أبناء النساء العاملات في القرية لقاء أجر صباحاً، وبعد الظهر كنت أساعد النساء في أعمال تنظيف البيوت والحدائق والطبخ مقابل أجر مادي لا يخلو من التعاطف معي. بقيت لأكثر من شهرين على هذه الحال، في الليل أسهر بجانب زوجي المريض، وفي النهار أقوم بعملي كخادمة أو طباخة أو حتى بائعة للخضار في المدينة”.
تقول: “ذقت علقم الحياة في هذه الفترة، كان العمل صعباً على امرأة في عمري، لكنه لا مفر منه. كان الدواء غالياً والكشف الصحي يجب أن يكون دوريّاً، ولقد اضطررنا إلى وضع زوجي في المشفى لمدة أسبوع و صرف كل النقود التي جمعتها، لأتفاجأ بعدها بوفاته التي اضطرتني إلى العودة والبقاء في بلدي و بيتي، فرغم القصف و الحرب يبقى بيتي هو الوطن الذي يحميني”.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبها/كاتبتها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.