قبل أن ينتهى شهر المرأة

مدونات هافينغتون بوست- يرجع نضال المرأة إلى تاريخ النضال الإنساني نفسه، ولكن الحديث هنا عن نضال المرأة لنيل حقوقها، والذي جاء متأثرًا بعصر الحداثة ومتزامنًا مع حركات التحرر التي ظهرت في عصر التنوير، وسيادة الروح النقدية الدياليكتيكية.
ارتبط أيضًا بالثورة الصناعية في الغرب وسيطرة الرأسمالية، وبالمقابل انتشار الأفكار المنادية بالحرية والعدالة الاجتماعية والتنظيمات الاشتراكية والشيوعية التي استهدفت مواجهة استغلال أرباب العمل.
ويعد التاريخ الحقيقي لبزوغ فجر نضال المرأة المنظم هو نهايات العقد السادس من القرن التاسع عشر وما شهدته تلك الفترة من تظاهرات ضخمة لعاملات النسيج في نيويورك احتجاجًا على ظروف العمل اللاإنسانية، ثم إنشاء أول نقابة نسائية لعاملات النسيج، فإنشاء جمعية NAWSA في الولايات المتحدة عام 1889، لينهي هذا التاريخ مرحلة التأسيس للحركة النسوية، ولتبدأ مرحلة جديدة في نضال المرأة أكثر أهمية استمرت حتى الربع الأول من القرن العشرين.
برز دور “السفرجيت” (Suffragette) خلال هذه المرحلة، وهي حركة تبنت الدفاع عن حقوق المرأة بشكل عام وخاصة حقها في الانتخاب والترشح، ومن أهم رموز الحركة بشكل عام Elizabeth Cady Stanton وRosa Luxemburg، ومن الراديكال Christabel Pankurst، تميزت هذه المرحلة بتطور حراك المرأة والتنوع في المطالب ما بين الحصول على الحقوق السياسية والمطالبة بالحقوق الاجتماعية والاهتمام بقضايا عامة محلية وعالمية، بالإضافة لاتساع رقعة النضال نفسه في أميركا وأوروبا.

ففي 8 مارس 1908 خرجت آلاف العاملات بمسيرة في نيويورك للمطالبة بتخفيض عدد ساعات العمل ورفع المعاش ووقف عمالة الأطفال وحق الاقتراع، تلكم التظاهرات الشهيرة بأغنية “خبز وورود” معبرة عن تطورٍ ما في مطالبهن، فمن مطالب بتخفيض عدد ساعات العمل للعاملات منذ 50 عامًا إلى مطالب أخرى تشمل الطفل والوضع المالي للعاملات والمطالبة بالحقوق السياسية ممثلة في حق الاقتراع، لتعلن عاملات النسيج في عام 1909 الإضراب النسائي الأشهر والأكبر خلال هذه الفترة والذي استمر عدة أسابيع من أجل رفع الأجور وتحسين ظروف العمل.
وفي روسيا خرجت مئات الآلاف من العاملات وزوجات وأرامل الجنود في مارس 1917 إلى الشوارع احتجاجًا على معاناتهن من الأمية والتهميش والاضطهاد مطالبات بإنهاء حالة الحرب وعودة أزواجهن رافعات شعار “الخبز لأولادنا”، لتتطور المطالب هنا إلى ما أبعد من حقوقها كامرأة سواء الاجتماعية منها أو السياسية لتشمل رفض الحروب.
بدأت “السفرجيت” التصعيد من خلال تنظيم الاعتصامات كما فعلت عضوات حزب المرأة القومي أمام الكونغرس والبيت الأبيض وتعطيل العمل، وبدأن هجومهن على ويلسون واتهامه بالازدواجية والكذب فيما يدعيه من نشر الديمقراطية بالخارج وفي داخل أميركا نصف السكان لا يستطيعون التصويت.
وفي تصعيد مقابل تم سجن عضوات الحزب مثل Alice Paul وغيرها لتبدأ السجينات إضراباً عن الطعام احتجاجًا على احتجازهن كسجينات سياسيات.
وعندما لم تجدِ الوسائل السلمية انتهجت “السفرجيت” في كل من بريطانيا وأميركا نهجًا أكثر حدة وعنف كتكسير نوافذ المتاجر وإحراق صناديق البريد وتفجير بعض الأهداف كخطوط الاتصال وبعض منازل المسؤولين غير المسكونة، وكان ذلك بمثابة الإعلان عن دخول نضال المرأة مرحلة جديدة بأدوات ووسائل جديدة، فلم يعد باستطاعة المرأة الاستمرار في استجداء حقوقها وإنما كان عليها اقتناصها.
واستمر الوضع هكذا إلى أن تمت الاستجابة لمطالب المرأة. وأتت التكتيكات الجديدة في الحراك ثمارها، حيث إن استجابة السياسيين لمطالب المرأة لم تكن انطلاقًا من التزام شخصي منهم تجاه العدالة الاجتماعية والقيم التقدمية ولكنهم فعلوها على مضض استجابة لما أملته عليه الآليات الجديدة في نضال “السفرجت”.
سيدة المصنع – عندما تكون السينما أكثر إنصافًا من التاريخ
ألهم نضال “السفرجت” كلاً من المخرجة البريطانية Sara Gavron وكاتبة السيناريو Abi Morgan ليخرج إلى النور فيلم الديكودراما Suffragette، تفرُّد الفيلم لم يأت فقط من تناوله قصة حركة من أعظم حركات المرأة نضالًا، وإنما تركيزه على مسألة انطلاق النضال من القاعدة، فقد ركز الفيلم على أولئك الذين يمثلون أساس أي نضال حول العالم، أولئك الذين من دونهم لم يكن ينجح أي حراك جماهيري مهما بلغ ذكاء وعلم وحصافة قادة النضال.
لقد سلط الفيلمُ الضوءَ على المرأة العاملة ومعاناتها ودورها في هذا النضال، فلم تحصر المخرجة نفسها في تجسيد الشخصيات التاريخية وإنما اكتفت بالإشارة إليهم مثل تناولها لشخصية أميلي ديفيسون التي ضحت بنفسها في حلبة سباق الخيل، ولشخصية زعيمة الحركة إميلين بانكرست التي كان ظهورها قليلاً في الفيلم، وهذا يحسب لصُناع الفيلم. فقد قاموا بابتكار شخصية خيالية من الطبقة العاملة، وكان خلق هذه الشخصية بعدما علموه عن دور العاملات خلال هذه الفترة وما قبلها حيث مثّلن الركيزة الأساسية لنضال المرأة لنيل حقوقها.
فقد كانت محور أحداث الفيلم شخصية اسمها Maud Watts قامت بدورها الفنانة Carey Mulligan، حيث إن “مود” سيدة عشرينية عاملة تتشارك الحياة مع زوج سلبي يفتقد إلى الشجاعة، كما ترعى طفلًا صغيرًا. عرض الفيلم لمعاناة النساء العاملات في ذلك الوقت من خلال عرضه لما يتعرضن له من تحرش أرباب العمل والتمييز في الأجور والأجازات والمعاملة.
وجسدت “مود” القهر والتهميش اللذين عاشتهما المرأة البريطانية العاملة في تلك الحقبة الزمنية، ومثلت الواقع البائس الذي كانت تناضل من أجله القيادات النسوية الأكثر تعليمًا وثقافة واللائي أتين في الغالب من الطبقة الوسطى.
جمال شخصية “مود” يأتي من أنها مثلت ذلك النوع من النضال العفوي غير الواعي، حيث بدأت نضالها بشكل تلقائي من خلال دفاعها عن نفسها وزميلاتها العاملات ضد المعاملة المهينة والسيئة من رب العمل، دونما تلقيها توعية مسبقة أو دونما الانضمام إلى تنظيم نقابي ما يعطيها الدافع للعب هذا الدور.
بالطبع حدث بعد ذلك أن تعرفت على “السفرج” من خلال إحدى زميلاتها العاملات، حيث كانت عضوة في المنظمة، ثم انتقلت تدريجيًا إلى قلب الكفاح النسوي المنظم وصولًا إلى مرحلة التحول إلى العنف التي تبنتها الحركة، ثم تعرضها مع أخريات للاعتقال، وتخلي زوجها عنها وقيامه بطردها وحرمانها من ابنها الصغير، ثم لم يستطع حتى تحمل مسؤولية الطفل فقام بإعطائه لعائلة أخرى لتتبناه، لتدمر بذلك حياة “مود” العائلية بالكامل.
وفي مشهد غاية في الروعة والإنسانية، عرض الفيلم لذلك التناقض الإنساني الذي تنبع منه قوة هذه المرأة والمتمثل في لحظات الضعف التي مرت بها “مود” نتيجة لتخلي زوجها عنها وحرمانها من ابنها، في توازٍ مع قوتها وثباتها النفسي في مواجهة رب العمل المتحرش ومواجهة مفتش الشرطة الذي عرض عليها الإفراج مقابل التعاون معهم، لتنطلق انطلاقتها الكبرى برغم كل هذا الألم لتنخرط كلية في العمل السياسي مع الرابطة النسوية سفرج.
إنه لشيء مبهج وملهم أن تشاهد فيلماً أدرك صانعوه أهمية الطبقة العاملة، أهمية أولئك الذين يصنعون بأيديهم الأساس الاجتماعي لأي حضارة، ولكنهم غير مدعوين للتمتع بإنجازات هذه الحضارة إلا بما تتطلبه عملية البناء تلك.
غايثا.. فقط امرأة
ومن “مود” المناضلة العاملة إلى “غايثا” الباحثة عن نفسها، بدأ حديثنا حول ما يحدث في سوريا، ثم تطرقت أنا للحديث حول الواقع المرير الذي أجبرها على ترك بلادها، ارتشفت “غايثا” آخر رشفات قهوتها ثم قالت دعيني أحكي لك بصراحة: سأكون صادقة معك، لم آتِ إلى ألمانيا هربًا من الحرب والدمار، فلم تمثل الحرب بالنسبة لي مشكلة برغم سقوط قذيفة مرتين متتاليتين على بيتي، كنت قد تعايشت مع ذلك وتعودته، فأنا فتاة سورية ثلاثينية كنت أعمل بالأونوروا أتقاضى راتبًا مجزيًا، مستقلة لديّ منزلي الخاص ولديّ أصدقاء وحياة كاملة، لن أسهب لك في الحكي عما تعانيه فتاة مثلي في مجتمعاتنا من إصدار الأحكام وازدواجية الرجال من أكثرهم تشددًا لأكثرهم تقدمية، فجميعهم كبقية المجتمع سقطوا ضحية عادات وتقاليد وذكورية يخافون الاعتراف بها خوفًا على مظهرهم الشيك أمام دوائرهم الخاصة.
أنت مصرية يعني عربية مثلي وبالتأكيد تعرفين ما نحياه هناك كفتيات، إذا وضعت لنفسي حدودًا سمّوني “حسن صبي” تقابل “فوزية” في مصر، وإذا تصرفت كأنثى قالوا عني جريئة وأعطي مساحات للرجال كي يتجاوزوا معي. في مجتمعاتنا لن تكوني نفسك أبدًا، فزوجك يريدك “حسن صبي” مع الناس ومعه أنثى، والمجتمع حتى لا يدري ماذا يريد منك وتغرقين في الازدواجية والتيه ولن تستطيعين إرضاء أحد فهم متقلبون لا يعرفون ماذا يريدون، يخضعونك لتقلباتهم المزاجية وأهوائهم.
لن تتم معاملتك كإنسان “فقط” ستكونين إنساناً بشرطة، إذا عملتي بالمجال السياسي أسقطوا عنك صفة الأنوثة، وإذا كنتِ منفتحة ومستقلة وتفعلين فقط ما تريدين قالوا عنك فاجرة، لأنك لم تعيشين لأجل الأب أو الابن أو الأسرة، أذكر مرة أن أحد الأصدقاء سبني وقال لي أنت امرأة قوية تعني “شيء مو منيح بسوريا”.
في سوريا دائمًا ما كنت أشعر بأن هناك حدوداً لا يمكنني تجاوزها، أسواراً تحول بيني وبين ما وراءها، جئت إلى هنا بحثًا عن أبعاد جديدة للحياة، حياة “غايثا” وليس أحد آخر، جئت كي أدرس الموسيقى، يمكنني من هنا مواصلة عملي الإنساني، دائمًا كانت لديّ الرغبة في معرفة هذا العالم، ولكن قبل ذلك، معرفة “غايثا” وما تريده هذه المرأة بعيدًا عن مفاهيم التضحية من أجل الأب أو الزوج أو الابن، التضحية قيمة جميلة لكن قيمتي كامرأة لا تنبع من تضحيتي من أجل أحد، قيمتي كامرأة هي أنني إنسان ثم امرأة، جئت أبحث عن نفسي التي لم أجدها في بلادي، جئت لإشباع تطلعاتي أنا، جئت آخذ من الحياة ما أريد.
هنا لا أعيش تحت أحكام الآخرين هنا يمكنني أن أكون إنساناً، وإنسان فقط، لا أحد يشغل فكره بي أو بحياتي، لا أسعى إلى استرضاء أي أحد، أفعل كل ما أفعله لأنني فقط أريد وأحب ذلك ولكن ليس ليفخر بي أحد. في بلادنا لابد أن يفخر الآخرون بما تفعلين وإلا فليس لما تفعلينه أي قيمة.
وأنهت “غايثا” كلامها بجملة: “لكن برغم كل اللي حكيتلك إياه، بضل كل ما مشيت بالشوارع أبحث عن شوارع تشبه شوارعنا في الشام”.

ذكرتُ هذين النموذجين بالتحديد لأن الأول يمثل النضال العفوي للمرأة العاملة “مود”، تلك التي دائمًا ما يتم تجاهلها في كتب التاريخ، ودائمًا ما تذكر أسماء سيدات الطبقتين الوسطى والعليا ممن قدن نضال المرأة عبر التاريخ، والنموذج الآخر لـ”غايثا”؛ لأنه يمثل المعنى الحقيقي لأن تكوني امرأة، قيمتك تنبع من كونك إنسانة، قيمتك تنبع من كونك نفسك، وليس من كونك أمًا أو زوجة للعظيم فلان أو ابنة للرائع فلان أو أختًا للجدع فلان، أنتِ رائعة لمجرد أنك أنت، ثناء الآخرين وفخرهم بك من عدمه ليسا ذا قيمة في كونك إنسانة وامرأة.

أخيرًا وإن كنت ممن يرون أن قضية المرأة قضية لا تنفصل عن القضية الاجتماعية والإنسانية ككل، وإنني على قناعة بأن المرأة ستصبح حرة ومساوية للرجل في عالم ذي علاقات تنظيمية جديدة على كل المستويات، وأن تحرر المرأة ليس فقط اجتهاداً فردياً من قبل المرأة أو الحركات النسوية، وأنه يعد بمثابة جزء من المعركة الاجتماعية الأكبر لتحرير المجتمع ككل من شتى أنواع الاستبداد والاستعباد، فهو جزء من قضية الحريات والديمقراطية بشكل عام.

لكن هذا لا يمنعنا من أن نشيد بما حققته الحركة النسوية من أجل نيل المرأة حقوقها، كما لا يمنعنا من إعادة قراءة نضال المرأة لنيل حقوقها، فمن ردَّدن في تظاهراتهن أغنية “خبز وورود”، لم يكن طريقهن في مسيرة نضالهن لنيل حقوقهن مفروشًا بالورود، فقد كان مليئًا بالنضال والاعتقالات والمساومات وتخريب حياتهن العائلية وفقدان أطفالهن، وعندما اقتضت الحاجة انتهجن العنف، هؤلاء الوردات كانت لديهن يد ناعمة تحمل الخبز وتطالب بالحق وأخرى حديدية تضرب وتأخذ الحق أخذًا ولا تطلبه.
فهلا وجدنا في نضالهن عبرة ودرسًا؟

آذار .. شهر المرأة

آذار .. شهر المرأة

أترك تعليق

مقالات
يبدو أنه من الصعوبة بمكان أن نتحول بين ليلة وضحاها إلى دعاة سلام! والسلام المقصود هنا هو السلام التبادلي اليومي السائد في الخطاب العام.المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015