بين مطبخي ومطبخ أمي “وعيٌ جندريّ”
بين مطبخي ومطبخ أمي

سلمى الديب/jeem- أعرّفكم بنفسي في البداية، أنا سلمى الديب، طبيبةٌ وكاتبةٌ متزوِّجة. وأظنُّ أن المعلومة الأخيرة مُهمَّةٌ لأنها تتعلّق بما سوف أحكيه في ما بعد.

تبلغ أمِّي من العمر 52 عامًا وتعيش في مدينةٍ ريفيةٍ صغيرة. أمّا أنا، فأعيش في القاهرة منذ نحو أربع سنوات. 

فلاش باك

في أثناء فترة مراهقتي، كانت أمِّي وجدّتي تلحّان عليّ لأساعدهما في تحضير الطعام كي أتقن الصّنعة. كانت جدّتي تقول: “إتعلِّمي الطبخ عشان لما تتجوِّزي متكسفيناش”. لم أفكِّر في أبعاد الأمر حينها. جلّ ما كنتُ أفكر فيه كان أني لا أريد قضاء عطلتي الصيفية في المطبخ، فيما كان ثمة أمورٌ عدّة أكثر إمتاعًا من تتبيل اللحوم، وتسوية الأرزّ وإعداد السلطات.

لم أكن أعي حينذاك الأدوار الجندرية، وأنّ العمل المنزلي هو عملٌ غير مأجور. كنتُ مراهقةً لا تودّ قضاء الوقت في تنفيذ رغبات جدَّتها وأمِّها، بل في المرح واللعب.

بدايات الاستقلاليّة

في أيلول/سبتمبر 2012، انتقلتُ من المدينة الريفيّة الصغيرة التي كنتُ أعيش فيها إلى الإسكندرية للالتحاق بكلِّيَّة الطبّ. تطلَّب الأمر أن أعيش بمفردي لتنطلق أهمّ مرحلةٍ في حياتي. في البداية، كانت أمِّي تُعدُّ لي بعض الأكلات الجاهزة، وكان المطلوب مني مجرّد تسخينها لكي آكل. مع الوقت، أصابني الملل من تناول الطعام غير الطازج، عدا عن أنّ وزني ازداد بسبب الوجبات الجاهزة، فبدأَت المغامرة!

أتذكّر الطبخة الأولى التي أعددتُها لي ولثلاثٍ من صديقاتي اللواتي كنتُ أعيش معهنّ: الكبدة والمكرونة. لم تكن الكبدة جيّدة ولا المكرونة، لكنّي عاودتُ المحاولة مرارًا وتكرارًا حتى نجحْت. 

تنقّلتُ بين منازل عدة في الإسكندرية على مدار سبع سنواتٍ إلى حين أنهيتُ دراسة الطبّ. وفي كلّ بيتٍ حمل المطبخُ تجارب أكلاتٍ باء بعضٌ منها بالفشل وحصد البعض الآخر منها النجاح. يقول مريد البرغوثي في كتابه “رأيتُ رام الله”: “لم أستطع تكوين مكتبةٍ منزليةٍ متصلة أبدًا، تنقّلتُ في البيوت والمحطّات والشقق المفروشة وتعوَّدتُ على العابر والمؤقَّت. روّضتُ نفسي على ذلك الشعور بأنّ بكرج القهوة ليس لي. فناجين قهوتي من ممتلكات المالك ومن مخلِّفات المستأجر السابق حتى كسر فنجانٍ منها يتخذ معنًى آخر. الصدفة العقارية وحدها هي التي تختار لي شكل ملاءات سريري، حجم مخدَّتي، ستائر نوافذي، طنجرة الطبخ، ملعقة الشاي، كلّها هناك كما شاءَت أو كما شاء الآخر، لا كما تشاء أصابعي. لا أنتقي. الصدفة تنتقي”.1

قادَتني الصدفة إلى قراءة هذا الكتاب في بداية سنواتي الجامعية، لتعلَق تلك الجملة في ذاكرتي وتشكّل نظرتي عن البيوت. فاشتريتُ طبقًا وفنجانًا للقهوة اخترتهما بعنايةٍ شديدة، ونقلتهما معي عبر البيوت الكثيرة التي استأجرتُها.

في الأسبوع الماضي، التقيتُ بصديقاتي اللواتي عِشن معي، وتندّرنا على الأكلات السيِّئة التي طبختُها لهنّ، وضحكن ثلاثتنا بصوتٍ عالٍ على تلك الأيام التي نحنُّ لها، ولمنازل كانت جزءًا منَّا، وحفرَت ذكرياتها في أذهاننا. 

الوعي بالأدوار الجندرية 

تزامن حدوث ثورة يناير في مصر مع تغييرٍ اجتماعي كبير. فمثلًا، حضرَت النساء بشكلٍ أكبر في الشارع، وازداد عدد الفتيات المستقلّات عن أهلهنّ، وأصبح معتادًا أن تجد منزلًا تسكنه ثلاث فتياتٍ من مناطق مختلفة، يستأجرن البيت معًا رغبةً في الاستقلال المعيشي.

كنتُ إحدى بنات وأبناء تلك الثورة، ومسَّني ذلك التغيير. ومع تنوُّع قراءاتي في تلك الفترة، توسّعَت نظرتي للحياة، وبطبيعة الحال لدَوري كأنثى في المجتمع. أصبح الطبخ مهمةً يوميةً لإعداد طعامٍ ذي جودةٍ عاليةٍ وقيمةٍ غذائية. أحببتُ الابتكار في الوصفات وتذوُّق أطعمةٍ جديدةٍ خارج حدود عالم أمي.

كنتُ أشتري المكوِّنات لنفسي وأطبخها، بعكس بيتنا العائلي حيث يشتري أبِّي المكوِّنات وأمِّي هي من تطبخها. لا تعتمد أمِّي على المكوِّنات التي قد تسهِّل حياتها. أظن أنها تحبّذ صنع كل الموادّ بيدَيها وألّا تقلِّل من الوقت الذي تقضيه في إعداد الطعام؛ فمثلًا، لا تشتري معجون الطماطم الجاهز بل تصنعه بنفسها في كلّ مرّةٍ تريد استخدامه. الحال ذاته بالنسبة للخضروات المُقطَّعة والجاهزة للطبخ. أمّا أنا، فأعتمد على تلك الخضروات المقطّعة ومعجون الطماطم والتتبيلات الجاهزة، وكلّ ما يمكن أن يقلّل من الوقت الذي أقضيه في إنجاز الأعمال المنزلية.

يشاركني زوجي الأعمال المنزلية أيضًا. كلانا ينظر إليها على أنها عملٌ غير مأجور، ونتندّر كثيرًا عندما أطلب منه القيام بعملٍ ما، والعكس صحيح. في حين أنّ أبي لا يشارك في أيّ عملٍ منزلي طالما أنّ أمِّي بصحّةٍ جيِّدة، كما أنّ أمّي لم تطلب منه يومًا إنجاز أيٍّ من الأعمال المنزلية.

تتولّى أمِّي مهمَّة تحضير الطعام للأسرة منذ زواجها، ويترتِّب على ذلك بعض الإعدادت، مثل العودة من العمل مُبكرًا لكي تُنهي الطبخ قبل عودة أيٍّ منَّا إلى المنزل. أمّا أنا، فلا أكترث لهذا الأمر. أحيانًا، أطلب من زوجي أن يُعدَّ الطعام، وفي أحيانٍ أخرى نشتري طعامًا جاهزًا على التسوية (أي يحتاج فقط للتسخين كي ينضج)، وفي بعض الأيام نطلب أكلًا جاهزًا بالكامل لا يتطلّب سوى إحضار الأطباق والملاعق التي اخترتُها بعنايةٍ فائقةٍ قبل زواجي بسبب الانطباع الذي كوَّنه في ذهني كتابُ مريد البرغوثي.

هل تُحمِّلنا الأعمال المنزلية عبئًا نفسيًا؟

على الرغم من أنّ الأدوار التي يؤدّيها النساءُ والرجالُ باتت أقلّ صرامةً ممّا كانت عليه قبل عقود – ويمكن رؤية ذلك بوضوحٍ بالمقارنة بين حياتي وحياة أمِّي – تشير إلى أنّ عبء العمل غير المأجور لا يزال يقع على عاتق النساء بشكلٍ رئيس. وهذا ما تؤكّده دراساتٌ عديدةٌ عن البلدان العربية. وتبيِّن دراسةٌ صادرةٌ عن البنك الدولي نُشرَت في عام 2020 أنّ النساء في مصر يقضين نحو 35 ساعة أسبوعيًا في الأعمال المنزلية في مقابل 4 ساعاتٍ يقضيها الرجل. أمّا في الأردن، فتشير دراسةٌ صادرةٌ عن منظمة العمل الدولية نُشرَت في عام 2019 أنّ النساء يقضين 5 ساعاتٍ يوميًا في الأعمال المنزلية في مقابل ساعةٍ واحدةٍ للرجال. ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للبنان، إذ تشير دراسةُ المنظمة الدولية لحقوق المرأة نُشرَت في عام 2017 إلى أنّ النساء يقضين 28 ساعة أسبوعيًا في المهامّ المنزلية في مقابل 14 ساعة للرجال.

وتعكس هذه الإحصاءات استمرار الأدوار الجندرية التقليدية التي لا تزال تحدّد مسؤوليات المرأة تجاه الأسرة والبيت في المجتمعات العربية على نحوٍ يفوق الرجل.

وغالبًا ما يتمّ التغاضي عن تأثير عدم المساواة في العمل غير المأجور على صحّتنا النفسية كنساء. وبالفعل، أجرى علماء من جامعاتٍ عدّةٍ في أستراليا وأوروبا دراساتٍ عن العلاقة بين العمل غير المأجور والصحّة النفسية بين البالِغين/ات العامِلين/ات. وأشارت النتائج التي نُشرت في مجلة The Lancet Public Health Trusted Source إلى وجود علاقةٍ سلبيةٍ بين العمل غير المأجور والصحّة النفسية للنساء العاملات، يعني ذلك أن النساء اللاتي يعملن بشكل غير مأجور (على سبيل المثال، العمل التطوعي) يمكن أن يواجهن مشاكل في الصحة النفسية أكثر من النساء اللاتي يعملن بشكل مدفوع. وعلاوة على ذلك، فإن هذه العلاقة تشير إلى أن العمل غير المأجور قد يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للنساء العاملات.

محشي لا أصنعه أبدًا “من أوّله”

في الأسبوع الماضي، اتفقتُ وزملائي وزميلاتي في العمل على تناول وجبة الغداء سويًا في منزلي، وقرَّرتُ إعداد محشي مشكَّل. أخبرتُ أمّي بالخطة فتندَّرَت عليّ قائلة: “قال يعني إنتِ اللي عاملاه من أوّله”.

في الواقع، أشتري المحشي جاهزًا على التسوية، فلا يتطلّب مني وقتًا أو مجهودًا في الإعداد. وبالنتيجة، آكل طعامًا لذيذًا وبالجودة التي أحبّ من دون أن أتحمّل عبء تحضيره. أمّا أمي، فتقوم بجهدٍ جبّارٍ لإعداد المحشي، وهو ما لا أقوى عليه بنفسي.

هل غيَّر وعيي بالأدوار الجندرية أم وضعي كامرأةٍ من الطبقة المتوسطة الطريقة التي أعدّ بها الطعام؟ أم أنّ حياة العاصمة السريعة هي السبب في نمط الحياة الذي أنتهجه حاليًا؟ 

أعرف أن كل هذا امتيازات منحتها لي الحياة، دراستي للطب وعمل زوجي في منظمة دولية مرموقة والدور الذي لعبته الثورة في تغيير وعيي والذي بالضرورة أثر على جميع اختياراتي ومنها اختياري لشريك حياتي. أعرف أيضًا أن حياة العاصمة لها مميزاتها وعيوبها وأني اختار منها ما يناسب طريقة حياتي. 

في المحصّلة، أنا سعيدةٌ بأنّ الطبخ ليسَ مهمّتي الزوجية مثل أمِّي. أقف متى شئتُ في مطبخي الذي تصدر منه ألحانُ إذاعة الأغاني لتستقبل كلّ مَن يدخله، فيثني على وجود الراديو وشعور الأُنس الذي يضفيه على المكان. ربّما لكي أنعم بصحّةٍ نفسيةٍ أفضل من أمِّي، أقوم ببعض الممارسات التي أرعى بها نفسي مثل الاستماع إلى الراديو، والقراءة، ومعاينة صورة المحشي المرفقة أعلاه والتي التقطّها في الأسبوع الماضي وأسميتُها “الأعمال الكاملة”.

  • 1.مريد البرغوثي، “رأيتُ رام الله”، لبنان، المركز الثقافي العربي، 1997، ص. 110.

*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر فقط عن رأي كاتبتها/كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي “تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية”.

بين مطبخي ومطبخ أمي

أترك تعليق

مقالات
خاص (تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية)- بعد عقودٍ من نضال النساء السوريات للوصول إلى حقوقهنّ، ما زال طريق النضال طويلاً مع فجوة هائلة في الحقوق الاقتصادية والمشاركة السياسية. ورغم تكثيف جهود المؤسسات النسوية والنسائية منذ بداية الحرب السورية في العام 2011 ،ورغم الدعم الدولي الظاهر، ...المزيد ...
المبادرة النسوية الأورومتوسطية   EFI-IFE
تابعونا على فايسبوك
تابعونا على غوغل بلس


روابط الوصول السريع

إقرأ أيضاً

www.cswdsy.org

جميع الحقوق محفوظة تجمّع سوريات من أجل الديمقراطية 2015